في عشرينية الاتحاد الأفريقي.. الجزائر تنتصر لفلسطين
محمد حسب الرسول
لَئِنْ كان وعي قادة الكيان الصهيوني راسخاً بشأن الدور المنوط بهم وبكيانهم، فلقد كان الوعي بجغرافية الموقع، سياسياً واستراتيجياً، حاضراً أيضاً.
كان الإقليم الاستوائي، الواقع شماليَّ يوغندا وجنوبيَّ دولة جنوب السودان، موقعاً مقترَحاً لتقام عليه "دولة" الكيان الصهيوني، بسبب استيفائه بعض المعايير المطلوبة في عملية اختيار موقع الكيان الجديد، غير أنه استوفى فقط المعايير الاقتصادية، ولم يتوافر فيه المعيار اللازم لتأسيس الأسطورة الدينية اللازمة لحشد الصهاينة ليكونوا سكاناً لهذا الكيان.
ومنذ قيام الكيان في أرض فلسطين، كانت أفريقيا حاضرة في خريطة التفكير الصهيوني، ولا تزال. فالقادة الذين أسسوه، والذين تعاقَبوا على موقع القيادة فيه، يعرفون طبيعة كيانهم، ويعرفون أدواره الوظيفية، والتي أُنشِئ من أجلها، ويفهمون جيداً أنه قاعدة صناعية سياسية عسكرية متقدمة للغرب في موقع استراتيجي بالغ الأهمية، كونه يقع في آسيا العربية، ويطل على أفريقيا، شماليّ الصحراء وجنوبيّها، ويُشرف على البحر الأحمر، الذي يمثّل معبراً بين قارتي آسيا وأفريقيا، مثلما يمثّل جسراً يربط بين عرب القارتين، وجسراً من جسور التلاقي العربي الأفريقي.
ولَئِنْ كان وعي قادة الكيان الصهيوني راسخاً بشأن الدور المنوط بهم وبكيانهم، فلقد كان الوعي بجغرافية الموقع، سياسياً واستراتيجياً، حاضراً أيضاً، فكانت استراتيجية احتواء إثيوبيا وإيران وتركيا، كونها دولاً كبيرة متداخلة مع محيطها العربي، وكانت استراتيجية التغلغل في أفريقيا حاضرة.
ولهذا، شرع الكيان الصهيوني، منذ سنواته الأولى، في تنفيذ الاستراتيجيتين، فدخل أفريقيا عبر إثيوبيا، وتمدّد منها إلى أجزاء واسعة من القارة السمراء، كونها أرض المواد الخام المُراد سلبها، وبصفتها السوقَ المستهدَفة بالمنتوجات الصهيونية المصنَّعة من المواد الخام الأفريقية؛ هذه السوق التي تضمّ نحو مليار ونصف مليار من السكان، يمثّلون سبعة عشر ونصفاً في المئة من سكان المعمورة.
لقد حقّقت استراتيجية التغلغل الصهيوني في أفريقيا نجاحات في لحظات الغفلة العربية، وحققت تراجعاً وانكساراً في أوقات الصحوة العربية، فأصبحت أسيرة لحركة المدّ والجَزر العربية في خمسينيات القرن الماضي حتى منتصف سبعينياته. وما إن جاءت "كامب ديفيد" وأخواتها، حتى بدأ حبل الاعتصام الأفريقي العربي يمضي من ضعف إلى آخر، وأعاد ذلك الحياة إلى استراتيجية التغلغل الصهيوني في أفريقيا؛ عمق العرب ومجالهم الحيوي وامتداهم، ثقافياً واجتماعياً، وسندهم السياسي وشريكهم الاقتصادي، الذي لم يمنحوه ما يستحقّ من اهتمام بسبب غياب الوعي والإرادة.
ذاتَ غفلة عربية، عادت "إسرائيل" إلى أفريقيا من جديد، تفتح باباً بعد باب، حتى دخلت الاتحاد الأفريقي في نهاية العام الماضي، عضواً مراقباً بقرار من مسؤول عربي أفريقي يشغل موقع رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي؛ هذا الاتحاد الذي يمثّل داراً لأفريقيا، وبيتاً لقادتها، ومستودعاً لآمالها وآلامها، غير أن الجزائر، التي لم تغشَها غفلة العرب وسِنَتُهم، كانت حاضرة وعند الموعد، فلم تكتفِ بانتقاد قرار رئيس المفوضية ورفضِه، وإنما قادت عملاً دبلوماسياً في أروقة الاتحاد وفي دول القارة وفي الأوساط الرسمية والشعبية في تلك الدول، فنجحت في تكوين فريق عمل بمشاركة دولة جنوب أفريقيا وكل من تونس وجزر القمر وجيبوتي وموريتانيا وليبيا، وتمكّنت من استصدار قرار قضى بتعليق قرار رئيس مفوضية الاتحاد، وعرض الأمر على القمة الأفريقية التي أنهت أعمالها مساء الأحد، 6 شباط/فبراير 2022، وقرّرت تجميد قرار منح "دولة" الكيان عضوية المراقب، كما قررت تشكيل لجنة سباعية من أجل دراسة الأمر والتوصية بشأنه للقمة الأفريقية التي ستنعقد العام المقبل، وتضمّ اللجنة كلاً من الرئيس السنغالي، ماكي سال، بصفته الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، ورئيس الجزائر عبد المجيد تبون، ورؤساء جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، ورواندا بول كاجامي، ونيجيريا محمد بوهاري، والكاميرون بول بيا، إلى جانب رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي.
وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي تحقَّقت بفضل جهود الجزائر وجنوب أفريقيا وشركائهما، فإن هنالك معطيات مهمة يلزم الانتباه لها، وهي:
- ثمة ضغوط صهيونية وأميركية كبيرة تُمارَس على القادة الأفارقة من أجل حملهم على منح "دولة" الكيان الصهيوني مقعدَ العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي، في ظلّ غياب الدول العربية ذات التأثير في هؤلاء القادة ودولهم، سياسياً واقتصادياً ومعنوياً.
- أبرزت جهود الجزائر وشركائها انقساماً حاداً بين دول القارة الأفريقية، بين مؤيد للجهود الجزائرية، ومؤيد للمساعي الصهيونية، وهنا تتعادل كفّتا الفريقين تقريباً.
- وجود ستّ دول مطبِّعة مع "إسرائيل" بين الدول السبع التي تتشكّل منها اللجنة، التي كلّفتها القمة الأفريقية دراسةَ الأمر، والجزائر هي الدولة الوحيدة، داخل هذه اللجنة، التي لم تَنَل عضوية نادي التطبيع العربي الأفريقي، بيد أن دولة جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي تقف الموقف السليم المؤازر للموقف الجزائري، على الرغم من ارتباطها بعلاقات دبلوماسية بـــ "إسرائيل"، الأمر الذي يجعل سلامة توصيات هذه اللجنة محلَّ شكّ كبير بسبب الأغلبية الميكانيكية للمؤيدين لـ"إسرائيل" بين أعضائها.
- هناك فترة عام كامل، هي فترة عمل اللجنة، وهي فترة يمكن أن يستغلّها الطرفان: الساعي لمنح "إسرائيل" عضوية المراقب في الاتحاد الأفريقي، والطرف الرافض لذلك.
- هنالك صراع دولي كبير على المسرح الأفريقي بين القوى الاستعمارية القديمة وأميركا من جانب، وبين الصين صاحبة "الطريق والحزام" ومعها روسيا الباحثة عن موطئ قدم لها في أفريقيا على البحر الأحمر والمحيط الأطلسي وداخل المستعمرات الفرنسية القديمة في غربي أفريقيا وسائر المستعمرات الأوروبية الأخرى. ويمنح هذا الصراع المحتدم الآن بين هذه الدول فرصة في تحرك عربي مع روسيا والصين، وتوظيف قوة هاتين الدولتين في مصلحة المساعي العربية، بصورة أو بأخرى، ولاسيما أن الدول العربية الواقعة في القارة الأفريقية تُمثّل مركز الثقل الأهم بالنسبة إلى المشروع الصيني والمشروع الروسي في أفريقيا. وبالتالي، تملك أوراقاً مهمة تُمكّن من ممارسة ضغوط على هاتين الدولتين لتؤدّيا دوراً يساعد الجهود العربية.
- المناخ الشعبي العام في الشارع الأفريقي مناخٌ مؤيّد للقضية الفلسطينية، وفي الإمكان تمكينه من أداء دور مهم ومؤثّر في القادة والحكومات الأفريقية وتوجُّهاتهم في قضية التطبيع، بصفة عامة، وفي قضية عضوية "إسرائيل" كمراقب في الاتحاد الأفريقي، بصورة خاصة.
إنً الجزائر حقَّقت انتصاراً مهمّاً للقضية الفلسطينية في المسرح الأفريقي، في الماضي وفي الحاضر، غير أن العرب وأصدقاءهم مطالَبون اليوم بتعضيد جهود الجزائر ودعمها حتى تتمكّن مع شركائها الأفارقة من الحؤول دونَ تحقُّق الحلم الصهيوني بالعودة مرة أخرى إلى الاتحاد الأفريقي. وهذا يتطلَّب تضافر الجهود الرسمية والشعبية، ويتطلّب أيضاً تصميم حملات عمل استثنائية، دبلوماسياً وإعلامياً، من الشعوب والحكومات، وإطلاقها من أجل التأثير في مواقف القادة الأفارقة وقراراتهم، ليقفوا الموقف الصحيح، والذي لا يكافئ "دولة" الاحتلال والاضطهاد والفصل العنصري بموقع داخل أهمّ مؤسسة أفريقية.