الكيان الإسرائيليّ من نافذة مفاوضات فيينا.. عقم وتبعيّة
وسام إإسماعيل
الكيان الإسرائيلي الذي وجد في إدارة دونالد ترامب وقراراته الرئاسية ضالته، أصبح ملزماً بإدارة ملف التهديد الإيراني وفق رؤية الإدارة الحالية.
لم يكن الموقف الأخير الَّذي أطلقه وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، وبعده رئيس شعبة الاستخبارات في "الجيش" الإسرائيلي اللواء هارون حليفا، موقفاً عادياً يتوافق مع أدبيات السياسة الإسرائيلية، إذ إنَّ سياق التعاطي مع إشكاليّة البرنامج النووي الإيراني، وقبله الموقف العدائي من نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسياساتها، يفترضان تحليل التبدّل الذي طال الخطاب الإسرائيلي من حيث القناعة المستجدة بحتميّة وصول مفاوضات فيينا إلى اتفاق يكرّس موقع الجمهورية الإسلامية كفاعل إقليمي.
وفي هذا السّياق، تُطرح إشكاليّة تبعية الموقف الإسرائيلي للمسار الأميركي على مستوى تاريخ العلاقات الدوليّة، وعدم قدرته على مجاراة التّمايز الذي يحكم القرار السياسي الأميركي الحالي، بسبب انعدام تعدد الخيارات وارتكاز أدوات العمل الإسرائيلية على حتميات سياسية لا يمكن الالتفاف عليها، فالمسار الذي سلكته العملية التفاوضية منذ بداية الجولة الثامنة كرَّس قناعة إسرائيلية ودولية بنهائية القرار الدبلوماسي الأميركي وجديته، إذ إنَّ خيار الحرب استُبعد عملياً من تصريحات القادة الأميركيين منذ وصول الرئيس الأميركي جون بايدن إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، وإن بقي حاضراً في أدبيات البروباغندا الإعلامية الأميركية، فالواقعية التي حكمت سلوك الإدارة الأميركية الحالية تفترض مقاربة الحلول المطروحة لإشكالية التعاطي مع الجمهورية الإسلامية وفق أدوات القوة التي ما زالت متوفرة في جعبة الولايات المتحدة الأميركية بعد مسار منكفئ، بدأ في العراق، ولن ينتهي في أفغانستان.
ولأنَّ الموقع المهيمن للولايات المتحدة، والَّذي ساد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تزعزع بفعل تعرّضه لعدد من الانتكاسات التي بدأت بالانسحاب من العراق، وصولاً إلى القرار الأخير بالانسحاب من أفغانستان، مروراً بعدم القدرة على حسم الصراع الطويل مع الجمهورية الإسلامية، والصّعود السريع للقوى الصينية والروسية، وحتى الأوروبية، المناوئة للأحادية الأميركية، فإنَّ الإدارة الأميركية آثرت اتباع أسلوب مختلف لإدارة الأزمة، عبر استحداث وسائل لا تستند إلى أدوات القوة الخشنة التي أمعن جورج بوش الابن ودونالد ترامب في استخدامها.
وبناءً عليه، إنّ الكيان الإسرائيلي الذي وجد في إدارة دونالد ترامب وقراراته الرئاسية ضالته، أصبح ملزماً بإدارة ملف التهديد الإيراني وفق رؤية الإدارة الحالية، بما يجعل خطابات التهديد والوعيد والمناورات التي تحاكي هجوماً عسكرياً على المواقع الحسّاسة في الجمهورية الإسلامية من دون أي قيمة عملية.
ولذلك، إنّ مخلّفات الخطاب الهجومي الإسرائيلي، والتي غذّتها عشوائية دونالد ترامب، واستمرّت حتى وقت قريب، تحوّلت في الفترة الأخيرة إلى ما يمكن اعتباره تهديدات جوفاء لا تراعي خصوصيات الزمان والظروف الإقليمية المستجدة بعد سنوات من الصراع الممتد من سوريا إلى اليمن إلى تعقيدات المفاوضات الندية في فيينا.
إنَّ الاعتراف الأخير للقادة الإسرائيليين بإمكانيّة تقبّل اتفاق نووي مع الجمهورية الإسلامية يفترض إعادة نظر إسرائيلية في أسس الاستراتيجيات الإسرائيلية على مستوى سياساتها الخارجية وجوهرها. ولأنّ الخطاب الإسرائيلي، منذ نشأة الكيان، كان مرتبطاً دائماً بعامل القوّة العسكرية والقدرة على التهديد وشن الضربات الخاطفة والحروب على أراضي الغير، فإنَّ إعادة النظر هذه ستصطدم بعقبات يصعب على الجانب الإسرائيلي تخطّيها، فإذا كان القرار الإسرائيلي بالتطبيع مع بعض الدول العربية يندرج في خانة التحوّل الاستراتيجي على مستوى السياسات الخارجيّة للكيان، فإنَّ هذا التطبيع لا يرتكز على استراتيجية لتمتين العلاقات السلمية مع دول الجوار.
إنّ جوهر القرار الإسرائيلي بالتطبيع استند إلى بناء حلف عسكريّ وأمنيّ ضروري لمواجهة الجمهورية الإسلامية، إذا لاحت فرصة لإسقاط نظامها. ولذلك، إنَّ القرار الأميركي بالتسوية السلمية للأزمة مع الجمهورية الإسلامية والاعتراف الإسرائيلي بإمكانية حصول هذه التسوية يعبران عن فشل مسارات الكيان الصهيوني الأخيرة، وخصوصاً أنَّ القادة الإسرائيليين صنّفوا مصلحتهم من التطبيع في الخانة الأمنية فقط.
وإذا عدنا إلى الهدف من الزيارات الإسرائيلية الأخيرة إلى البحرين والإمارات العربية المتحدة أو تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، فهو ما زال يتمحور حول ضرورة بناء تحالف يستهدف أمن الجمهورية الإسلامية ومواجهة ما تعتبره هذه الأطراف مشروعاً إيرانياً يهدد أمنها القومي
وبناءً عليه، إنّ العقل الاستراتيجي الإسرائيلي ما زال عاجزاً عن فهم التحوّلات التي تتبلور في فيينا، وبصورة أوسع في دوائر القرار الأميركية والعالمية، إذ إنَّ اتفاقاً محتملاً في فيينا قد ينسف جهود "إسرائيل" ويعرقل استراتيجياتها الهادفة إلى بناء نظام إقليمي يناسب رؤيتها المستقبلية لجهة حصول توازن إقليمي بقيادتها.
وفي هذا الإطار، يمكن التأكيد أنَّ العقل الاستراتيجي والسياسي الإسرائيلي توقّف عند لحظة إطلاق الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن مقولته الشهيرة: "إما معنا وإما ضدنا". ولأنَّ هذه المقولة كانت مناسبة للكيان الإسرائيلي في حروبه ومشاريعه منذ العام 2003، فقد حرص على استمرارها كقاعدة آمرة في دوائر القرار الأميركية عبر لوبياته وعلاقاته، غير أنّ ما غاب عن الوعي الإسرائيلي هو أنَّ الظروف الدولية التي تعاقبت منذ تاريخ إعلان تلك المقولة، وتعدّد الاتجاهات الفكرية للرؤساء المتعاقبين على رأس الولايات المتحدة، أنتجا تحوّلات في استراتيجيات الأمن القومي الأميركي؛ فالبراغماتية الأميركية وطبيعة النظام السياسي وغياب الثوابت وارتكاز السياسات الأميركية على معيار القوّة وتحقيق الحدّ الأقصى من المصلحة تجعل كلها إمكانية تغيير الرؤية الاستراتيجية أو تصنيف القوى بين مناوئ وحليف أمراً طبيعياً وسهلاً.
لذلك، إنّ الجانب الإسرائيلي الّذي اعترف بالفرص الجيّدة لتوقيع اتفاق بين الجمهورية الإسلامية والقوى الغربية ما زال عاجزاً عن مجاراة القرار الأميركيّ بالبحث عن حلٍّ سلمي وتقديم التنازلات التي تخدم هذا الهدف.
وإذا كان الجانب الأميركي قدّم في فيينا ضمانات برفع العقوبات، وبادر بحسن نية إلى رفع العقوبات التي فرضها دونالد ترامب بعد العام 2018، فإنَّ هذا الأمر يدلّ على براغماتية أميركية تفتقدها عملية صنع القرار في الكيان الإسرائيلي.
وإضافةً إلى فقدان الكيان الإسرائيلي معايير البراغماتية في عملية اتخاذ القرار على مستوى سياساته الخارجية، فإنَّ تبعيته للولايات المتحدة منذ العدوان الثلاثي على مصر شكّلت علامة مميزة للعلاقة بين الطرفين. وفي تقييمٍ بسيطٍ للموقف الإسرائيلي من كلّ القضايا التي واجهت "إسرائيل" والولايات المتحدة في المنطقة والعالم، يمكن ملاحظة تطابق يصل إلى حد الاستنساخ بينهما.
وبالنسبة إلى الموقف من الجمهورية الإسلاميّة، فإنَّ حدة اللهجة الإسرائيلية التي ظهرت في الأشهر الأخيرة بقيت ضمن سقف التهديدات الأميركية، مع الإشارة الدائمة إلى أنَّ القرار الإسرائيلي بشأن أيّ عملية عسكرية محتملة ضد الجمهورية الإسلامية لا يمكن تنفيذه إلا بمشاركة أميركية أو أممية.
لذلك، إنَّ التحوّل الأخير الَّذي أفرزته محادثات فيينا كشف عقم دوائر القرار الإسرائيليّة وعدم قدرتها على تبنّي خيارات مختلفة عما يمكن تصنيفه بالإطار النمطي للمنطلقات السياسية الإسرائيلية. لذا، إنَّ المسار الَّذي سلكته محادثات فيينا وتذبذب فرص الوصول إلى اتفاق بين لحظات سلبية وأخرى إيجابية، أظهرا فشل الكيان الإسرائيلي في تبني استراتيجية أمنية مستقلة، وعبّرا عن ارتباط عضويّ بالتوجهات الأميركية، من دون أيّ قدرة على خلق أدوات قوّة مستقلة تساعد على تحقيق المصلحة الإسرائيلية بعيداً عما تقرره الولايات المتحدة.