طلعات جوية جنوباً وتموضع في «اللاذقية».. روسيا في سوريا: نقطة تحوّل
حسين الأمين
تثير التحركات الروسية الأخيرة في سوريا، والتي يأتي على رأسها تسيير دوريات جوية مشتركة مع الجانب السوري على حدود الجولان المحتل وإرسال قوة من الشرطة العسكرية الروسية للتمركز في ميناء اللاذقية، تساؤلات في تل أبيب حول ما إذا كانت موسكو اتّخذت قراراً بوضْع حدّ للتمادي الإسرائيلي في الاعتداءات على الساحة السورية. وإذ لا يبدو هذا الاحتمال بعيداً بالنظر إلى أن التحركات المذكورة أعقبت رسائل تحذير سورية - إيرانية إلى روسيا، من أن الامتناع عن لجم ذلك التمادي سيستتبع فعلاً مباشراً من دمشق وطهران، فهو قد لا يكون معزولاً أيضاً من حسابات روسية، مرتبطة من جهة بالتطلّع إلى مساحة نفوذ في ميناء اللاذقية، وبالتجاذب مع الولايات المتحدة والغرب على خلفية أزمة أوكرانيا، من جهة أخرى.
أثار إعلان وزارة الدفاع الروسية، أوّل من أمس، تنفيذ طائرات حربية سورية وروسية، دوريّات مُشتركة على طول حدود المجال الجوّي السوري، قلَقاً في الأوساط الإسرائيلية من هذا التحرّك، الذي يشكّل سابقة منذ وصول القوات الروسية إلى سوريا عام 2015. وأوضحت الوزارة، في بيان، أن "مسار الدورية المشتركة كان على طول الحدود مع إسرائيل في هضبة الجولان من الشمال إلى الجنوب، وبعد ذلك على طول جزء من الحدود مع الأردن، ومن هناك إلى منطقة الفرات والشمال". وأكدت أن هذه الدورية، الأولى من نوعها والتي تفيد المعطيات بأنها جرت خلال ساعات نهار السبت الفائت، "لن تكون الأخيرة"، مضيفة أنه "من الآن فصاعداً، الرحلات المشتركة ستتحوّل إلى منتظِمة". وبحسب مقال كتبه يوسي يهوشع في "يديعوت أحرونوت" العبرية، قبل يومين، فقد "تساءل كبار القادة السياسيين والأمنيين، عمّا حدث للروس الذين قرّروا تغيير سياستهم تجاه إسرائيل"، لِيُورد عدّ احتمالات من بينها أن الروس "أرادوا إثبات إمكانية إحباط الهجمات الجوية الإسرائيلية في سوريا"، الأمر الذي يعني أنهم "يعتقدون أن إسرائيل بالغت بشدّة" في تلك الهجمات.
استياءٌ في دمشق وموسكو
لا تزال تداعيات الغارتَين الإسرائيليتَين اللتين استهدفتا الشهر الفائت ميناء اللاذقية الواقع تحت المظلّة الروسية المباشرة، حاضرة سواءً في دمشق أو موسكو، على اعتبار أنهما مثّلتا تمادياً غير مسبوق. لكن الاستياء بدا أوضح وأكبر لدى القيادة السورية، ولا سيما في ظلّ "تجاهُل" الجانب الروسي للاعتداءات التي استهدفت بشكل مباشر، مرّتَين على التوالي خلال أقلّ من شهر، الميناء الذي يُعدّ الشريان الحيوي الرئيس لإمداد البلاد بمختلف البضائع، وكذلك لتصدير البضائع السورية إلى الخارج. ولم يقتصر هذا الاستياء على المستوى السياسي، بل امتدّ إلى صفّ كبار الضبّاط في الجيش السوري، الذين أثاروا المسألة في أكثر من مناسبة، بحسب معلومات "الأخبار". أمّا في موسكو، فلم يمرّ الحدث مرور الكرام على الإعلام الروسي المقرّب من الحكومة؛ إذ انشغلت بعض الصحف بإخلاء مسؤولية القوات الروسية في سوريا عن التصدّي للغارات، بينما تحدّثت صحف روسية أخرى، كصحيفة الكرملين "vz"، عن ما سمّته "فخّاً نصبته إسرائيل للطيّارين العسكريّين الروس"، ناقلةً عن جنرال طيار روسي أن هذا يندرج في إطار «تقنية تكتيكية تنفّذ فيها مهمّتك الخاصّة تحت مظلّة العدو". وأشارت الصحيفة إلى أن إسرائيل خالفت الاتفاق غير المعلَن مع روسيا، حول "آلية التنسيق" للعمل في الأجواء السورية، والتي تقتضي إبلاغ الجيش الإسرائيلي مُسبقاً، الروس، عن نطاق الأهداف التي يريد قصفها، لتجنُّب الإضرار بالقوات الروسية. وفي هذا السياق، تفيد معلومات "الأخبار" بأن القيادة السورية وحلفاءها، وبشكل خاصّ إيران، "عبّروا عن استيائهم أمام الجانب الروسي من تمادي إسرائيل في هجماتها، كما ألمحوا إلى أنهم قد يكونون مضطّرين للردّ على هذه الهجمات، ما لم يَجرِ لجمها".
ومن هنا، يُضحي مفهوماً إرسال القوات الروسية المتمركزة في قاعدة حميميم القريبة من ميناء اللاذقية، قبل أيام قليلة، قوّة من شرطتها العسكرية، "لتتمركز بشكل دائم داخل الميناء"، بحسب ما علمت «الأخبار». وهو تطوُّر حرصت وسائل الإعلام، الروسية والسورية، على الترويج له، بنشرها مقاطع فيديو تُظهر قيام الشرطة العسكرية الروسية بدورية مشتركة مع الشرطة السورية، في الميناء وداخل ساحة الحاويات، موضع الاعتداءَين الإسرائيليَّين الأخيرين، في رسالة بالغة الدلالات. وفي السياق نفسه أيضاً، يمكن فهم البدء بتسيير دوريات جوّية مشتركة على طول الحدود مع الجولان المحتلّ، فيما لا يمكن إغفال زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لموسكو قبل أيام، والتي أتت التحرّكات الروسية الأخيرة بعدها مباشرة، ما قد يدلّل على تفاهمات توصّل إليها الجانبان.
لكن من جهة أخرى، ثمّة من يعتقد أن إيفاد قوات روسية إلى ميناء اللاذقية، ليس في مصلحة الدولة السورية، التي جَهِدت طوال السنوات الماضية في عدم تسليم الميناء للروس. وفي هذا الإطار، تشير مصادر سورية مواكبة، في حديث إلى "الأخبار"، إلى أن "الجانب الروسي طلب من الدولة السورية مراراً وتكراراً تسليمه ميناء اللاذقية، عبر عقود استثمار طويلة الأمد، لكنّ الحكومة السورية رفضت ذلك في كلّ مرة". وتضيف المصادر أن "دخول القوات الروسية إلى الميناء بعد الغارات الإسرائيلية، يمكن أن يعني حصول الروس على حصّة ما من الميناء، مقابل حمايته من الهجمات الإسرائيلية عبر تواجدهم فيه، وهذا يستدعي الانتباه والتفكير في احتمالات أن تكون القوات الروسية قد تعمّدت غضّ النظر عن الهجمات الإسرائيلية على الميناء، للوصول إلى هذه النتيجة، وتحقيق أهدافها تحت مظلّة التهديدات الإسرائيلية".
ما علاقة أوكرنيا؟
بالعودة إلى ما كتبه يهوشع في "يديعوت أحرونوت"، فإن احتمالاً آخر ـــ أكثر أهمّية برأيه ـــ قد يكون وراء التحرّك الروسي الجديد، وهو "التوتّر بين الولايات المتحدة وروسيا، مع تزايد قلق واشنطن بشأن تحرّك عسكري روسي في المستقبل القريب في أوكرانيا"، حيث "قد يرغب الروس في إرسال إشارة إلى الأميركيين بشأن ساحة أخرى نشِطة في الشرق الأوسط". ويعتبر يهوشع أن "الاختبار الآن بالنسبة إلى إسرائيل هو ما إذا كان الأمر مجرّد إشارة في اللعبة بين القوى، وأنها ستنتهي، أم أن روسيا ستحدّ بالفعل من نشاط سلاح الجو الإسرائيلي في سوريا ضدّ الإيرانيين". كما يؤكّد أن "الاتصالات جارية الآن على المستوى الأمني بين ضباط الجيش الإسرائيلي والجيش الروسي لتهدئة النفوس، ومن المُحتمل أنه في نهاية المحادثات، حتى لو لم تُعلن إسرائيل ذلك، فهي ستقلّص الهجمات في سوريا ريثما يمرّ الغضب". وللإسرائيليين تجارب عدّة مع الروس في ما يخصّ "مرور الغضب"؛ ففي شهر تموز 2019، وعقب إسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة نقل عسكرية روسية فوق طرطوس الساحلية، خلال تصدّيها للغارات الإسرائيلية، أعلنت موسكو نيّتها تزويد الجيش السوري بمنظومة "إس 300" الروسية المتطوّرة. يومها، استوعبت إسرائيل السخط الروسي، وأعادت تثبيت آلية التنسيق مع روسيا، وخفّفت من وتيرة غاراتها لفترة محدّدة، وابتعدت عن قصف أهداف في مناطق السيطرة الروسية. وفي المقابل، لم يزوّد الروس السوريين بأيّ من منظومات "إس 300"، كما لم يتغيّر شيء على الأرض. ومع مرور الأيام والشهور، مرّ الغضب الروسي، وعادت إسرائيل إلى استهداف أيّ نقطة تريدها، وآخرها ميناء اللاذقية، تحت العين الروسية التي لم تحرّك ساكناً.