ما تداعيات فشل مفاوضات جنيف بين روسيا وأميركا؟
العميد د. أمين محمد حطيط
لم يكن التقدّم الروسي على المسرح الدولي مريحاً للولايات المتحدة الأميركية وللحلف الأطلسي الذي تقوده عملياً والذي طوّرته من حلف عسكري دفاعي بوجه الاتحاد السوفياتي الى حلف ـ أداة للحفاظ على مصالح الغرب في العالم وبسط سيطرتها على المفاصل الأساسية فيه، أداة تمكنها من تنفيذ مشروعها الذي أطلقته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسعت عبره الى إقامة النظام العالمي الأحادي القطبية بقيادتها.
بيد انّ أميركا اصطدمت في مشروعها العالمي بعقبتين أساسيتين… الأولى ميدانية شكلتها المقاومة في الشرق الأوسط، والثانية اقتصادية وشكلتها الصين ذات الاقتصاد الصاعد بما يهدّد هيمنة أميركا على «الأسواق العالمية»، وكانت أميركا مرتاحة لما فرضته على روسيا من انكفاء متعدّد العناوين ما شجعها أكثر على محاولة إحكام الحصار على روسيا لضمان استمرار انكفائها وعزلتها التي حوّلتها من دولة من الصف الأول الى ما دون ذلك دولياً.
في مواجهة ما تقدّم خططت أميركا لإزالة ما يعترضها من عقبات لمعالجتها على مرحلتين: الأولى ميدانيّة وتمثلت بالهجوم المفتوح على الشرق الأوسط والذي تمثّل بما أسمته «الربيع العربي» والذي كان الأشرس فيه والأفظع من فصوله ما شهدته سورية من حرب كونيّة قادتها أميركا ومعها ما يقارب من ٨٠ دولة شاركتها بشكل او بآخر في العدوان المتعدّد العناوين على سورية، وفي مرحلة ثانية كانت أميركا تعدّ لها بعد إنجاز مهام الحرب الكونية على سورية وتنظيم أوضاع الشرق الأوسط بما يناسب أهدافها، فحدّدت حصار الصين واحتوائها وعزلها للتملّص من مخاطر اقتصادها المتطوّر الصاعد.
وفي الميدان ورغم الوحشية واللاأخلاقية التي نفذت بها الحرب الكونية العدوانية على سورية، وفي حين ظنّ المعتدي انّ أشهراً أقلّ من خمسة كافية لإسقاطها، فإنّ سورية ورغم تخلي العالم عنها صمدت وحدها في السنوات الثلاث الأولى من العدوان لا يساعدها أحد إلا بعض من حلفائها في محور المقاومة، وهنا بدأت الحسابات الدولية تتغيّر؛ وفي طليعة من راجع حساباته كانت روسيا التي بعد ان كانت امتنعت خلال السنوات الثلاث الأولى للحرب عن إمداد سورية بأيّ من احتياجاتها العسكرية المدفوعة الثمن، فإنها غيّرت نهجها بعد ذلك حتى وصل بها الأمر في العام ٢٠١٥ الى الانخراط في الميدان الى جانب الجيش العربي السوري وفصائل محور المقاومة التي كانت سبقتها الى الميدان السوري، وبهذا الانخراط الميداني بدأ النجم الروسي يضيء ثم يسطع في الفضاء الدولي، وبدأت روسيا تحصد نتائج الانتصارات في الميدان السوري لنفسها ولحلفائها، وارتقت الى مرتبة شكلت معها عقبة ثالثة أمام الطموح الأميركي يُضاف الى عقبتي المقاومة والصين.
وبهذا وجدت أميركا نفسها خاسرة استراتيجياً وعملانياً وميدانياً، إذ انها بعد ١٠ سنوات من حرب مركبة في آسيا الوسطي وغربي آسيا اضطرت لانسحاب دراماتيكي من أفغانستان والإعلان عن تحوّل قواتها في العراق من قتالية الى استشارية لوجستية وتدريبية، مترافق مع عجز في اليمن عن فرض الإرادة السعودية عليه، كما والعجز السعودي والحلف المعتدي على اليمن من تحقيق أيّ انتصار فيه، عجز يُضاف الى الفشل في سورية والعجز عن تحقيق أهداف العدوان عليها.
ويبدو انّ أميركا التي تحترف المكابرة وعدم الإقرار بالهزيمة وضعت خطة أخرى لمعالجة سلبيات نتائج حصدتها في العقد الأخير ويبدو أنها وضعت الشأن الروسي أولوية لديها لذلك اتجهت الى تحريك الوضع العسكريّ الميدانيّ على حدود روسيا الغربية والجنوبية وابتدعت مشكلة في أوكرانيا و»ثورة» في كازاخستان لمحاصرة روسيا وإعادتها الى أسوأ مما كانت عليه قبل عقد من الزمن.
بيد انّ روسيا ومستندة الى ما حققته من انتصارات وإنجازات في السنوات السبع الماضية اتجهت الى التصرّف الحازم حيال ما يوجه اليها ويستهدف او يهدّد مصالحها خاصة الأمنية منها، وقامت بما يؤدّي الى الحسم السريع والتهديد بالمواجهة المفتوحة مع أميركا وحلفها مهما كانت النتائج، وفي هذه البيئة من التشنّج وانعدام الثقة، انعقدت في جنيف المفاوضات الاستراتيجية ـ الأمنية بين روسيا من جهة وأميركا ومعها الحلف الأطلسي من جهة أخرى، مفاوضات سعت روسيا فيها الى وضع حدّ للمواجهة ومنع تشكل عناصر توتير العلاقة بين الطرفين، بينما حاولت أميركا انتزاع موافقة روسيا على عدم التدخل في شؤون جيرانها وإطلاق يد الأطلسي فيها، وكان من الطبيعي ان تفشل تلك المفاوضات بسبب استحالة قبول روسيا بالمطلب الأميركي من جهة ورفض الحلف الأطلسي القبول بالمطلب الروسي المتمثل بالتعهّد بعدم التوسّع شرقاً وعدم ضمّ أيّ من أوكرانيا والجمهوريات السوفياتية السابقة التي تشارك روسيا بحدودها او تقع ضمن المجال الحيوي الاستراتيجي الروسي. فروسيا لا تتقبّل مطلقاً فكرة تشاركها بالحدود مع دولة عضو في الحلف الأطلسي لما لذلك من تأثير سلبي على الأمن القومي الروسي.
ومع انهيار المفاوضات تلك سيكون الحلف الأطلسي وبزعامة أميركا أمام مواقف روسية جديدة تتعدى ما شاهده منها خلال الأعوام السبعة الفائتة مواقف سيكون جوهرها السعي للحسم والرد السريع على أي استفزاز حتى ولو تطلب الأمر اللجوء الى القوة العسكرية المفتوحة الآفاق (ما دون النووي) ولهذا ينتظر تطوير روسي للموقف في المناطق التي تشهد أو تتضمن خطوط تماس روسية أطلسية او أميركية مباشرة او غير مباشرة وهنا يذكر ٣ ميادين أساسية:
الميدان الأول في كازاخستان: حيث كان الردّ الروسي السريع على حركة الاحتجاجات التي كادت ان تسقط الدولة الصديقة لروسيا وتنقلها الى الضفة الأخرى، حيث تكون تحت الهيمنة الأميركية. وكان التدخل العسكري الروسي السريع المنفذ باسم وعنوان «منظمة الأمن الجماعي» ما أدّى الى حسم الموقف وإبقاء كازاخستان حيث هي وأجهض محاولة أميركية بالغة الخطورة على الأمن القومي الروسي والموقع الروسي دولياً.
الميدان الثاني أوكرانيا حيث انّ روسيا لن تقبل مطلقاً فكرة انضمام هذه الدولة الى الحلف الأطلسي مهما كان الثمن والكلفة ولن تتقبّل فكرة وجود منصات الصواريخ الأطلسية على حدودها الغربية، لذلك تحشد قواتها للإطاحة بالحكومة الحالية القائمة في كييف أن اقتضى الأمر، دون ان يثنيها تهديد بعقوبات او حصار او حتى تهديد بمواجهة عسكرية امتنعت أميركا حتى الآن عن التلويح بها واكتفت بالتعهّد بتسليح أوكرانيا، وبالتهديد بعقوبات تفرضها علي موسكو ليس أكثر في حال دخلت عسكرياً الى أوكرانيا.
الميدان الثالث سورية حيث ستجد روسيا انّ استمرار السلوك الأميركي في سورية على ما هو عليه من احتلال وسرقة ثروة طبيعيّة والحؤول دون إعادة سورية الى حياتها الطبيعية فيه من السلبيات، ما يستنزف روسيا وحلفاءها في محور المقاومة ويؤثر سلباً على الإنجازات التي تحققت منذ العام ٢٠١٥. واذا عطفنا ذلك على السلوك والاحتلال التركي لأراضٍ في سورية وتمّت قراءة الوضع مع عضوية تركيا في الحلف الأطلسي نصل الى خلاصة مفادها بانّ السلوك الروسي في سورية سيتطوّر بشكل يرفد القوة بدرجة أكبر لسورية وحلفائها ما يشكل ضغطاً ميدانياً كافياً لوضع الحدّ للاحتلال الأميركي والتركي على حدّ سواء، ما يقود الى القول بإمكانية اقتراب إغلاق ملف الحرب على سورية خلال العام الحالي.
وعليه نقول إن فشل مفاوضات جنيف بين روسيا والحلف الأطلسي بزعامة أميركية من شأنه أن يدفع روسيا للتشدّد أكثر في التعامل مع الغرب وأن تتكئ اكثر على قوتها العسكرية وبذلك ستجد أميركا انها حصدت في الميدان عكس ما خططت له وستفاجأ بتماسك مثلث «رفض الهيمنة الأميركية» (إيران روسيا والصين) وستكون مضطرة للتنازل أمام هذا المثلث في ظلّ عدم استعدادها للدخول في مواجهات عسكرية لا يتهيّبها مَن هم في المثلث المذكور.