رجلان بحجم دولة وإرهاب البلطجة…!
د. جمال زهران
درجت العادة أن تستخدم مصطلحات في أوطاننا، وفي بيئاتنا المحلية العربية، لها من الأهمية والدلالة، ما يمكن أن يكون رسماً لقواعد دولية وعالمية. ومن ذلك مثلاً: «الكبير يتصرّف بحجم كبارته»، و«الكبار لا يتصرّفون كالصغار.. وإلا ضاعت هيبتهم.. وسقطت مكانتهم»، و«الكبار إذا ما نزلوا إلى منازل الصغار.. يسقطون». هكذا علمنا أستاذ العلاقات الدولية العلامة د. إبراهيم صقر، أنّ العلاقات الدولية هي امتداد للعلاقات الداخلية الوطنية.
وفي ضوء ذلك، فإنّ الدول الكبرى عليها أن تتصرّف إزاء الآخرين (دول صغرى، أم كبرى»، بمسؤولية، وبما يتفق مع مكانتها ككبيرة، وتلك هي الوظيفة الأخلاقية للدول الكبرى). فهل من المعقول أن يتصرّف الكبار بمنطق الدول الاستعمارية القديمة وعصور ما قبل التاريخ ذاته، حيث النهب المنظم، والقوي يقتل الضعيف، ولا مكان للصغار أو الضعفاء؟!
ربما يرى البعض أنّ في ذلك الحديث، خيالاً ورومانسية، ولكنها مدرسة في العلاقات الدولية، تقابلها مدرسة القوة والواقعية الفجة. ولكن في زمن شيوع مبادئ حقوق الإنسان، ومحاولة إلزام الجميع بها، والالتزام بقواعدها، فإن جرى بالقول إنّ الذي يطالب الآخرين بذلك الالتزام، عليه أن يقدم التزامه أولاً، قبل إلزام الآخرين، وإلا فإنّ سقوط الهيبة يصبح حتمياً.
كما أنه من القواعد أيضاً، في الحروب والمواجهات العسكرية، فإنه لا بدّ من أن يكون ذلك بين أنداد وعلى مستويات قريبة في القوة، ولتحقيق هدف واضح، من دون أن يكون ذلك للثأر أو التنكيل. فما بالكم لو قامت دولة كبيرة بحجم الولايات المتحدة، أو روسيا أو الصين، مثلاً، بتعقب أشخاص، وسحقهم من الوجود، وهم عُزَّل، أليس ذلك بجريمة إنسانية تستوجب عقاب من أجرم على ذلك، سواء رئيس دولة أو قائد عسكري أو منفذ للعملية، بل فإنه فوق هذا وذاك، فإنه من الواجب فضح سلوك هذه الدولة، وتقديمها لمحاكمة دوليّة تُحاسَب عليه، ويحاسب قادتها الذين أمروا باستخدام القوة ضدّ أشخاص عُزَّل، وإلا فإننا قد أصبحنا في عالم الغابة، وهي عودة للعصور القديمة وما قبل التاريخ!!
تلك هي مقدمة ضرورية، واجبة الإشارة، في «الاحتفالية» بالذكرى الثانية لاغتيال شهيدي الأمة الإسلامية والعربية وهما: الفريق/ قاسم سليماني (قائد فيلق القدس)، والعميد أبو مهدي المهندس، أثناء خروجهما من مطار بغداد، لإنجاز بعض المهام وترتيب بعض الأمور المشتركة. حيث كان الرئيس الأميركي المتغطرس السابق (دونالد ترامب)، قد أمر باغتيال عمديّ فاضح لهذين القائدين (الإيراني والعراقي) مع رفاقهم، وهم عُزَّل وآمنون!! هذان القائدان افتقدا الأمان، وافتقدا المنازلة مع أقران لهما، وليس مع دولة كبرى بحجم الولايات المتحدة. تلك الدولة المعتدية وهي (أميركا)، متهمة بعد ارتكاب هذه الجريمة، بارتكاب فعل فاجر، وعمل إجرامي واسع ضدّ أفراد، وليس ضدّ دولة منافسة لأميركا!! فالعدوان والمواجهة يكون بين الولايات المتحدة وروسيا أو الصين، وليس بين أميركا وأفراد عُزل! في هذا الشأن، فإنّ قدر هذين الشخصين (سليماني/ المهندس)، قد ارتفع عنان السماء ليبلغا قدر أميركا القوية والأكبر في العالم!؟ أيّ أنّ أميركا، بكلّ قوّتها، أقدمت على جريمة ضدّ الإنسانية، هي المبادرة باغتيال شهيدين، على عيون الأشهاد وتحت سمع وبصر العالم كله!! وذلك دون الاقتراب من دولة مناظرة لها!! تلك هي مأساة هذه الإنسانية التي نعيش فصول العجب والعجاب!!
السؤال: هل يجوز لدولة كبرى أو حتى صغرى، أن تقوم بهذا العمل الشائق والإجرامي في حقّ اثنين من البشر، بهذه الصورة التي تتسم بالبشاعة!! أليس هذا عملاً إرهابياً منظماً، يستحق معه معاقبة الدولة مهما كانت كبيرة أو صغيرة، وممثليها الذين أمروا بتنفيذ العملية، بل وببجاحة وغطرسة القوة، اعترفوا بها، وعلى لسان الرئيس الأميركي السابق (ترامب)؟! وماذا لو حدث في المقابل، قيام دولة العراق أو إيران، بتنفيذ عملية ممثلة، ضدّ الرئيس الأميركي، أو وزير خارجيته، أو وزير دفاعه؟! ماذا سيكون عليه الحال؟! وماذا سيكون ردّ الفعل الأميركي؟! ألن يصفوا ذلك بالإرهاب، وانعقاد مجلس الأمن بإصدار قرارات إدانة، بل والارتكاب إلى الفصل السابع لاستخدام القوة ضدّ الدولة الفاعلة لذلك؟!
إنها مأساة الإنسانية البغيضة، والممقوتة، والازدواجية الحقيرة، التي تشيع الظلم والعدوان من دول كبرى ضدّ شعوب الدول الصغرى!!
وقد تابعت احتفالات جمهورية إيران الإسلامية، وكذلك العراق، ولبنان، احتفاءً بالذكرى الثانية لاغتيال الشهيدين (سليماني/ وأبو مهدي)، وقد كانت احتفالات تطالب بضرورة الثأر من أميركا والصهيونية، وعدم الاكتفاء بضرب قاعدة «عين الأسد» الأميركية، بل طالبت الاحتفالات بضرورة السعي نحو تقديم أميركا ورئيسها السابق (ترامب) والمسؤولين الأميركيين، إلى محاكمة جنائية دولية، تفادياً لتكرار مثل هذه الأفعال الإجرامية الحقيرة، وانصافاً للعدل والعدالة.
آن الأوان لوقف استخدام القوة ضدّ الأفراد مهما كانت مواقعهم وسلطاتهم في الدولة، ومَن يريد القصاص لأيّ سبب، فعليه بالدولة، وليس بالأفراد. إنه إرهاب الدول الكبرى التي تسيء استخدام القوة ضدّ الشعوب في العالم الثالث، تحية للشهيدين (قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس)، في ذكرى استشهادهما الثانية، فقد كان معاً بحجم دولة، هكذا خيّل لدولة الإرهاب الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة، التي هي صانعته، ومنفذته. وستظلّ هذه الجريمة نقطة سوداء جديدة في تاريخ الولايات المتحدة الأسود، ولم يكن بغريب إذن، أن يتستر ترامب المتغطرس الذي أمر باغتيال هذين الشهيدين، على محمد بن سلمان ورجاله الـ (16) بدعم دول أخرى في الإقليم، الذي قام بعملية اغتيال بشعة وتقطيع جثمان الضحية بالمنشار للمعارض السعودي (جمال خاشقجي)، وداخل القنصلية السعودية في تركيا، في عودة لعصور ما قبل التاريخ!! فقد كان تصرف الولايات المتحدة بهذه الواقعة، إشارة خضراء للتابعين، بأن يرتكبوا مثل هذه الجرائم، وتلك هي خطورة المقبل…!