الحاج قاسم في لبنان
ليلى عماشا
لا مواعيد ثابتة لزيارة الحاج قاسم إلى بيروت؛ فالسند حضر في كلّ مرّة استدعى الظرف حضوره، وحضر حين كان يسبقه قلبه إلى ملاقاة الأحبة، أو وداعهم، وحضر يوم استحالت الضاحية إلى ساحة حرب ودمار.
وحضر حين تكفّل بأن تعود أجمل ممّا كانت. وحضر حين همّ بالذهاب إلى منتهى العشق شهيدًا كي يترك على جبين صديقه ورفيق درب الجهاد السيّد حسن قبلة وداع.
بعد عامين على استشهاده، تشبه استعادة محطّات حضوره في لبنان أن يشهد المرء بعينيه كلّ أثر تركه لنا وفينا.
هنا، ولا سيّما في الضاحية، حيث أصبحت صوره جزءًا من هويّة المكان وعطره، مرّ الحاج قاسم في كلّ شارع، ترك بصمة عينيه على كلّ جدار، وشهد كلّ ما مرّ على ذاكرة الضاحية وأهلها. مرّ عزيزًا مواسيًا في الحزن، مشاركًا في الفرح، مباركًا في النصر، وداعمًا أصيلًا في كلّ المواقف.
في تمّوز ٢٠٠٦، حضر الحاج قاسم، رغم محاولات السيّد حسن نصر الله والحاج عماد مغنية ثنيه عن المجيء لأسباب عديدة أبرزها إبعاده عن الخطر المباشر، فالضاحية تحت النّار، ولا مكان آمن فيها، وحاجة المقاومة إلى الحاج قاسم في طهران، بحسابات المنطق، أكبر بكثير من حاجتها إليه في ساحة المعركة المباشرة. لكنّ حسابات العاشق تتخطى المنطق، وتهزمه، وتنتصر! ولأنّه أجمل العشّاق أتى، وبقي برفقة السيّد في غرفة العمليّات، وبقي قريبًا من العماد الذي رافقه في إيلام الأميركي في كلّ ساحة، والذي سبقه إلى الشهادة، والذي مثله ازداد في الغياب حضورًا، حتى بلغ بعد الشهادة سطوعًا يفوق أيّ حضور، ومثله ترك جرحًا في الصدور حتى بدا أن الانفجار الذي استهدفه قد فخّخ كلّ القلوب بغصّة لا تُفكّك ولا تندثر.
عند النصر الإلهي، شدّ العزيز رحاله إلى طهران. كان وعدُ إعادة إعمار الضاحية والقرى المدمرّة بالنسبة له مسؤولية تعادل دعم المقاومة ومدّها بالسلاح. لم يتأخر.
أمّا عند استشهاد جهاد عماد مغنية، فلم يكتفِ باستقبال الناس في إيران لتقبّل التبريكات لمدة يومين، بل زار بيروت لساعات معدودة أمضاها ليلًا وهو يتلو القرآن قرب تراب جهاد. تصرّف كما لو أنّ عمادًا ما زال هنا. تصرّف كما لو أنّه رفع للتوّ ابنًا شهيدًا.
وإن كان قد أزاح اللثام عن وجهه يوم استشهاد العماد، ففي يوم جهاده لثّم المقاومة كلّها بوجهه ذي الهيبة، وجلس عند التراب الطريّ يتلو الحب آياتٍ مؤنسة في وحشة الليلة الأولى.
لم يحصِ أحدٌ عدد زياراته، لكنّه حضر كلّما عبر شهيد، كلّما أنَّ قلبٌ، وكلّما استدعى الجرح تدخّلًا طارئًا من كفّه، وكلّما اشتاق صديقه السيّد. وقبل يومين من عبوره بوابة الزمان من دنيانا إلى الشهادة، جاء، جاء كمن يرمي السّلام الأخير على الضاحية، على آل مغنية، على جيش الشهداء في الروضة، ومضى.
ولأن زياراته الخفيّة أكثر بكثير من تلك التي عُرفت، ثمّة شعور دائم أنّه في الخفاء ما زال يأتي، يمرُّ بالضاحية مبتسمًا لأهلها، يزور البيوت سائلًا عن حال العوائل، ويمتلئ وجهه حياءً مسكوبًا في شيبٍ مهيب كلّما لمح على الجدران صورة له، وكلّما رأى منزلته في قلوب من قالوا "نحن قاسم".