قناعات شعبية رسّختها غزة في عام التحوّلات
حسن لافي
من الواضح أن قوة الردع لدى الاحتلال الإسرائيلي، والتي اعتبرها جيش الاحتلال أهم أهداف الحرب الأخيرة على غزة، تَتَأَكَّل أمام ثقة المقاومة بنفسها وقدرتها على أخذ زمام المبادرة.
بات هناك قناعة شعبية بأن أي خيار بعيدٍ عن خيار المقاومة لن يقدّم شيئاً إلى الشعب الفلسطيني.
سجّلت غزة اسمها بقوة بين أحداث عام 2021م، في معركة "سيف القدس"، التي مثّلت التحدي الأكبر الذي واجه "إسرائيل" في هذا العام. فمشاهد انطلاق عشرات الصواريخ من غزة في اتجاه "تل أبيب" لن تُمحى من الذاكرة الجمعية للمستوطنين الإسرائيليين ولا من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية، بحيث أثبتت غزة عام 2021م أنها القوة العسكرية الأهم في مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي، والأصعب في تقدير موقفها.
أثبتت غزة، من خلال أحداث عام 2021م، مجموعة من الحقائق، التي كانت "إسرائيل" تحاول تغييبها عن الجميع تجاه قطاع غزة، أهمها:
أولاً، فشل سياسة الاحتواء، التي كانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تنتهجها خلال الأعوام الماضية تجاه غزة، من خلال محاولة شراء الهدوء من غزة في مقابل تسهيلات إنسانية للحياة اليومية للمواطنين في غزة، على ضوء عدم قدرة الجبهة الداخلية الإسرائيلية على دفع أثمان المواجهة العسكرية مع غزة، ولا رغبتها في ذلك.
كانت سياسة الاحتواء تُعَدّ فكرة جيدة إسرائيلياً. والأهم، كانت هناك مَساعٍ لتطويرها من أجل الوصول عبرها إلى تهدئة طويلة الأمد تُخرج غزة من الاشتباك مع "دولة" الاحتلال. لكنّ ما شاهدته المؤسسة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي من تعاظم القدرات العسكرية للمقاومة في غزة طوال فترة الاحتواء، بالإضافة إلى أن سياسة الاحتواء لم تمنع المقاومة في غزة، على الرغم من كل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، من اتخاذ قرار المبادرة إلى دخول معركة عسكرية من أجل حماية القدس المحتلة والمسجد الأقصى بعيدا عن عناوين غزة الإنسانية واليومية الملحّة.
ما سبق دفع "إسرائيل"، في النصف الثاني من عام 2021م، إلى البحث عن استراتيجية تجاه غزة، تحافظ على الهدوء من جهة، وتضمن عدم تعاظم قدرات المقاومة في غزة، من جهة أخرى.
ثانياً، أثبتت غزة أن هناك حلاً جذرياً وحقيقياً لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وذلك من خلال الوحدة في مواجهة الاحتلال الصهيوني، كما حدث في معركة "سيف القدس".
فعلى مستوى الانقسام السياسي، بات هناك قناعة شعبية بأن أي خيار بعيدٍ عن خيار المقاومة لن يقدّم شيئاً إلى الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في الضفة الغربية والقدس المحتلة، اللّتين سجّل عام 2021م ارتفاعاً في عدد العمليات الفدائية ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه فيهما، بحيث تمّ تنفيذ 61 عملية إطلاق نار، و18 عملية طعن، بمعدّل زيادة الضعف عن العام الماضي. ومن الممكن إرجاع ذلك إلى أن فكرة حلّ الدولتين لم تعد مطروحة بالمطلق، بحيث إن أقصى ما تقدّمه "إسرائيل" هو أن تتحول السلطة الفلسطينية إلى إدارة أمنية وإدارة حياتية للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، بعيداً عن أي استحقاقات وطنية للفلسطينيين، كشعب يرزح تحت الاحتلال، الأمر الذي أبرزته تصريحات وزير أمن الاحتلال الإسرائيلي بني غانتس بعد لقائه الرئيسَ أبا مازن، عبر قوله إنه جلس مع أبي مازن "في إطار منصبه وزيراً للدفاع الإسرائيلي، مطلوباً منه التنسيق مع السلطة، من أجل حماية أمن إسرائيل"، وإنه لم يناقش مع أبي مازن "أي موضوع له علاقة بالمفاوضات او الآفاق السياسية".
أمّا على مستوى الانقسام الجغرافي، والذي تحاول "إسرائيل" ترسيخه داخل المشهد الفلسطيني، فمنذ عام 1967م هناك فصل بين الضفة وغزة من جهة، وبين أراضينا المحتلة عام 1948م، من جهة أخرى. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م، هناك انقسام جغرافي بين الضفة وغزة، تم تعزيزه من خلال دعم "إسرائيل" انقساماً سياسياً فلسطينياً، يحفظ لها عدم وحدة الشعب الفلسطيني، تماماً كما حفظت لها قوةُ الاحتلال عدمَ وحدة الأرض الفلسطينية.
أمّا المتغير الجديد في هذا السياق، فهو بَدءُ الحديث، في أوساط دوائر الأمن والاستراتيجيا لدى الاحتلال الإسرائيلي، في ضوء تحرك الضفة المقاوم المتزايد، عن تشكُّل استراتيجية فلسطينية جديدة، ركنها الشديد غزة، تحافظ على عدم التغوُّل الإسرائيلي على قضايا الشعب الفلسطيني الأساسية في كل مناطقه الجغرافية، وتساعد كل الجبهات الأخرى على استمرار مواجهتها للاحتلال، من خلال تدخلها العسكري المباشر ضد "إسرائيل" في حال حاولت كسر أي جبهة. وفي المقابل، تتحوّل الضفة الغربية إلى ساحة اشتباك يومي ضد الاحتلال ومستوطنيه، تحافظ على ديمومة الصراع مع الاحتلال، وتستنزفه في الساحة الأكثر استراتيجية له.
لذا، يُعتبر عامَ 2021م مرآة الحقيقة التي رأت "إسرائيل" عبرها فشل سياساتها تجاه غزة. وبالتالي، اعتبرت كل التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية أن غزة هي الجبهة الأكثر سخونة، والمرشحة للانفجار عام 2022م، نتيجة عدة عوامل، أهمها:
1. ما زالت غزة تحافظ على ربط نفسها بالضفة والقدس المحتلة، وبالقضايا الفلسطينية الكبرى، والتي تُعتبر قضيتا الأسرى والمسرى في مقدمتها. وأكدت المقاومة ورجالاتها أن كِلْتا القضيتين خطٌّ أحمر ممنوع تجاوزه إسرائيلياً. وهنا، تجدر الإشارة إلى قضية الأسير المضرب عن الطعام منذ أكثر من 137 يوماً، هشام أبو هواش، والذي اعتبر الأمين العام للجهاد الإسلامي أنها جريمة اغتيال إسرائيلية كاملة الأركان تستوجب الردَّ عليها.
2. سياسة الربط الإسرائيلية بين ملف إعادة الإعمار والتسهيلات الإنسانية، وبين ملف جنود الاحتلال الإسرائيليين المختَطَفين لدى المقاومة، وخصوصاً مع تعنُّت حكومة الاحتلال الإسرائيلية في دفع الثمن اللازم لإتمام صفقة تبادل الأسرى، الأمر الذي تنظر إليه المقاومة في غزة على أنه نوع من الابتزاز السياسي المُمارَس على المقاومة، ويمثّل تلكؤاً إسرائيلياً في إعادة الإعمار وفي تنفيذ التفاهمات مع الوسطاء، الأمر الذي يساهم في تسخين جبهة غزة.
3. من الواضح أن قوة الردع لدى الاحتلال الإسرائيلي، والتي اعتبرها جيش الاحتلال أهم أهداف الحرب الأخيرة على غزة، تَتَأَكَّل أمام ثقة المقاومة بنفسها وقدرتها على أخذ زمام المبادرة، الأمر الذي برز من خلال مناورة الركن الشديد 2 ذات الطابع الهجومي.
تبقى سيناريوهات المواجهة بين غزة و"إسرائيل" متعددة ومتشابكة، ونسبة حدوثها مرتفعة. لكن، هل يمكن أن تندلع شرارتها عام 2022م؟