لباس الديمقراطية يتمزق في الدول العربية
فوزي بن حديد
يبدو أن الديمقراطية لن تنجح في ربوع الدول العربية، ولن تعيش إلا أشهرا معدودة أو سنوات قليلة، لتخلق الفتنة من جديد بين أبناء الشعب الواحد، وتحدث الفوضى، وينتهي الخيط الرفيع الذي بدأت البلاد تسير عليه.
كأنه كتب على الدول العربية أن لا تعيش الديمقراطية على أرضها، فما إن تهدأ الأمور قليلا حتى ترجع إلى سالف عهدها من الفوضى والاحتجاجات التي جابت كل البلدان التي بدأ التغيير فيها يؤتي أكله. ومنذ نشأتها الحديثة، لم تستقر الديمقراطية على كرسي الحكم في المناطق التي نبتت فيها، ويبدو أن النبتة العربية تنشأ في تربة مهجنة لا تستطيع التكيف معها أو العيش في أحضانها. لذلك، تتبدل وتتغير بين الفينة والأخرى.
وحتى إذا استطاعت الصمود قليلا، فإنها سرعان ما تنكفئ على نفسها وتذبل، لوجود معوقات كثيرة وضغوطات كبيرة أجبرتها على الانحناء والانسحاب بكل روح رياضية.
هذا ما يحدث بالضبط اليوم في دولنا العربية التي جربت الديمقراطية الغربية، وأرادت أن تصنع من الشعوب العربية شعوبا حرة تنطق بكل شيء وتفعل أي شيء ولا يحاسبها أحد، فسادت الفوضى العارمة، وانتهى كل شيء إلى الدمار والخراب.
هل لأن هذه الدول لا تفقه الديمقراطية، أم لأنها تعودت على الاستبداد والدكتاتورية، فقد رأينا من يدعو إلى الديمقراطية يمارس الدكتاتورية عندما يجلس على كرسي الإغراء، أم أن الديمقراطية لا تنجح في بلداننا العربية، لأن تربتها تعودت على الاستبداد، وكلما أراد الشعب أن يقترب من الحرية المطلوبة، جاءته عواصف داخلية وخارجية ترجعه إلى الوراء سنوات وسنوات؟
وهل للدول الغربية يد في إحداث هذه البلبلة التاريخية في مناطق عدت أماكن إيواء للإرهابيين الذين نشأوا في أوروبا، وتصديرها إلينا عبر بوابة الجهاد، كما حدث في الشام، وتحديدا في سوريا والعراق، وما يحدث في ليبيا وفي كثير من البلدان.
بالطبع، سيقول بعضهم: نعم، بكل تأكيد، فالغرب لا يريد أن تنجح الديمقراطية في بعض الدول العربية، لأن ذلك يمس سيادتهم، فربما استطاعت دولة أن ترتقي إلى أعلى، فتكون نموذجا رائعا يقتدى بها، وهذا ما يقلقهم أو يزعجهم، لأن الشعب العربي إذا استفاق وعلم كيف يسير الأمور في بلاده عبر نظام ديمقراطي متين، سيطالب بحقوقه، كما فعلت الجزائر اليوم عندما طالبت فرنسا بالاعتذار عن الاستعمار وعن الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها قوات الاحتلال الفرنسي آنذاك، وربما تليها في المنوال تونس التي تعرضت للاضطهاد من فرنسا، إذ نهبت ثرواتها وما زالت على هذا السيناريو عندما وقعت اتفاقات مع بورقيبة مقابل الاستقلال المزعوم.
ولو قامت الديمقراطية أحسن قيام في تونس، وعرف سياسيوها كيف يديرون البلاد، سيقوم الحاكم بتأميم الثروات، وسيطالب المستعمر الفرنسي بالاعتذار عن الانتهاكات المؤلمة والجروح الغائرة التي تسبب بها إبان الاستعمار والاحتلال، ولكن هذا الأمر سيكلف الدولة التونسية غاليا حتى تناله، لأن فرنسا دولة استعمارية إمبريالية لا تستسلم بسرعة ولا تخضع لهذا الأمر بسهولة، وما يجري ليبيا وفي السودان وفي اليمن من حالة الاضطراب السياسي هو دليل على أن الديمقراطية التي يدافع عنها الغرب في الظاهر وأمام وسائل الإعلام إنما هي الديمقراطية المزيفة لا الحقيقية.
هم لا يدعون هذه الدول تقوم ديمقراطيتها إلا بالقدر الذي يعيد أبناءها إلى الوراء، حتى لا ينعموا بديمقراطية سليمة خالية من العيوب، وبالتالي نرى أن ما يحدث في السودان إنما هو عملية لجره إلى الفوضى، فالديمقراطية التي يريدها الغرب في منطقتنا هي الديمقراطية التي تجر إلى الفوضى، لا الديمقراطية التي تقود إلى الكرامة، لأن الكرامة في معناها الحقيقي إذا تحققت على الأرض، فهي تعني نهاية الغرب، وهو ما لا ترضاه القوى الاستعمارية والإمبريالية التي تعيش على ثروات العرب شرقا وغربا، وتستخدم أساليب خبيثة في التعبير عن آرائها وحيلها السياسية الموغلة في القدم.
وانطلاقا من ذلك، يبدو أن الديمقراطية لن تنجح في ربوع الدول العربية، ولن تعيش إلا أشهرا معدودة أو سنوات قليلة، لتخلق الفتنة من جديد بين أبناء الشعب الواحد، وتحدث الفوضى، وينتهي الخيط الرفيع الذي بدأت البلاد تسير عليه.
أوهمونا بأن الديمقراطية حل، وأن الدول لا تستطيع أن تعيش من دون ديمقراطية. أفهمونا بأن الديمقراطية انتخابات في صناديق الاقتراع، ومن له الأغلبية يفوز بمقاعد البرلمان ويتحكم في الإنسان والشجر والحيوان، ترى ما هذه الأغلبية التي يقصدونها؟ هل هي أغلبية الشعب أم أغلبية الناخبين؟
لو أجرينا عملية حسابية بسيطة، لكشف قناع الديمقراطية المزيف، ولتبين لنا أنها ليست الحل للدول والشعوب العربية. إنها القناع الذي توسدت به وجوه الطامعين في العالم، عالم الديمقراطيات غير الحقيقية، وإذا كانت بهذه الكيفية، فما أبشع طعم الديمقراطية حين تكون دخيلة علينا! ظنناها المخرج من أزماتنا، فإذا بها توقعنا في أزمات أشد وقعا على النفس من الأولى.
إنها الديمقراطية التي تختفي وراء سراب. كلما حاولنا الإمساك بها أفلتت وصدرت لنا ظلها البشع الذي تمسك به ذلك العنكبوت المخيف الذي يعض الناس ليهابوه. لقد صارت اليوم على ألسنة الناس شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فمن صنعها؟ ومن يدعمها؟ كيف يحصل هذا في عالم العرب؟ إنه لأمر محير فعلا ويدعو إلى الاستغراب.