صندوق النقد ولبنان.. لرفض الإملاءات
أحمد فؤاد
إلى طريق صندوق النقد الدولي المفتوح، يبدو أن لبنان قد وجد في المؤسسة المالية العالمية الدواء العاجل للحصول على فرصة التقاط الأنفاس، في عالم متسارع الخطوات، ومرتفع التكلفة كذلك، لتبدأ البلاد في فصلها الجديد من التحديات التي تلازمها منذ سنوات بعيدة، بحثًا عن حل وعن خطوة للأمام قدر لها أن تكون جامعة للكل، حتى إشعار آخر.
لكن، ورغم ضرورة الخيار لمنع انهيار كامل للاقتصاد اللبناني، إلا أن سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العالم لحزب الله، قد وضع ورقة التوصيات الوطنية قبل التوجه إلى صندوق النقد الدولي، بعبارات موجزة وحدود واضحة لما هو مطلوب وطنيًا، وبإيجاز كامل للمهمة التي تنتظر الوفد اللبناني المفاوض مع الصندوق، وأخيرًا بالتنبه من فخ تدخل تريد دائمًا المؤسسة العالمية أن تمارسه وأن يعرفه متلقي قروضها.
"وفد موحد حقيقي، وأن يناقش من منطلق المسؤولية والمصلحة، لا من منطلق تلقي الإملاءات".. بهذه الكلمات البسيطة لخص سماحة السيد حسن نصر الله الموقف الوطني من أية مفاوضات مع جهة دولية، وحين تكون الجهة الدولية هنا هي صندوق النقد، بكل توصياته وتاريخه الطويل في فرض شروطه على البلدان النامية، تكون العبارات ميثاق وطني لعبور مرحلة صعبة، ويكون الأخذ بها فرض على اللجنة التي ستتولى أمر التفاوض المعقد والصعب مع الصندوق.
بداية، فإن الدول تلجأ لصندوق النقد الدولي لحل أزمات مالية في الأجل القصير، مشاكل تعترض الموازنة جراء النقص في تدفقات العملات الصعبة، بما يؤثر على كفاءة الدولة وقدرتها على توفير احتياجات مواطنيها الأساسية والأكثر أهمية، وهذا بالضبط هو بيت القصيد في لبنان، وهو أيضًا ما يفهمه مسؤولو صندوق النقد، وما خرج صراحة من مديره التنفيذي وممثل المجموعة العربية فيه، محمود محيي الدين، وهو بالمناسبة أحد أركان نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
السعي اللبناني المعلن، عبر الاجتماعات التي جاءت كاشفة مع بعثة صندوق النقد الدولي والأمم المتحدة، لم تخف شيئاً من المواقف أو شروط المستقبل كما يتصورها المانح الدولي، الوضع الاقتصادي في لبنان حرج للغاية، والمطلوب تمويل سريع يمكن أن تبدأ دفعاته مع العام الجديد، والبرنامج النهائي للاتفاق سيكون عمومًا بانتظار الحكومة الجديدة لا الحالية.
وطبقًا لتصريحات رئيس الوزراء اللبناني ميقاتي ومحيي الدين، وما تم الإعلان عنه في وسائل إعلامية عدة، فإن لبنان سيحصل على دفعة أولى بقيمة 3/4 مليار دولار، لمجابهة الاحتياجات العاجلة، قبل الانتخابات النيابية، ثم سترتبط بقية الدفعات بمدى التزام الحكومة الجديدة بالبرنامج الموضوع من قبل الصندوق، والذي يجري العمل به على قدم وساق.
أما عن المفاوضات الدائرة حاليًا بين الصندوق ولبنان، فقد جاءت مثل كل الحالات التي سبقتها، حيث تزور بعثة من خبراء الصندوق بيروت، وستحصل على كامل البيانات والتقارير المطلوبة عن حالة الاقتصاد اللبناني، ومن ثم، ستعكف - البعثة الدولية - على وضع برنامج فني شامل للتعافي المالي، أو ما اصطلح على تسميتها بـ "وصفة الصندوق"، ثم يأتي المشهد الأخير، بتقديم الحكومة اللبنانية هذه الورقة ذاتها إلى صندوق النقد الدولي باعتبارها البرنامج الوطني وأولوياتها للمرحلة المقبلة!
بجانب هذه الطريقة الغريبة، التي يتبعها الصندوق في كل الحالات، فإن الولايات المتحدة ستكون صاحبة الكلمة الأهم في كل ما يجري، باعتبارها صاحبة الأصوات الأكبر في مجلس إدارة الصندوق بنسبة 17.46، متفوقة على كل الدول الكبرى التي تليها، وبالتالي فإن الاتفاق المنتظر سيكون في انتظار عقبة أميركية على الطاولة.
ما يهم الحكومة اللبنانية حاليًا، هو الحصول على تمويل عاجل، لوقف التدهور الحاصل في الأجل المالي القصير، خاصة مع تداعيات تفشي جائحة كورونا، والتعافي الاقتصادي العالمي البطيء أصلًا، وخبراء صندوق النقد الدولي وبعثته يعلمون ذلك تمامًا، وهي ورقة قوية في وجه المفاوض اللبناني بعدم الانجرار إلى الخضوع لبرنامج قاس من قبل الصندوق، والخروج باتفاق أفضل مما حصدته دول أخرى سبقت لبنان على هذا الطريق، لكن الشروط ستكون رفض الإملاءات المنتظرة والتي شدد عليها سماحة السيد حسن نصر الله.
لكن في كل هذا الحديث الدائر عن مفاوضات مسؤولي النقد الدولي، فإنه من الخطر أن تذهب من الأذهان الصورة المعنوية للانتصار الهائل عبر قوافل المازوت الإيراني إلى جب النسيان، بكل ما حملته من معنى الرمز ومعنى التحدي ومعنى الموقف المبدئي، وكونه النموذج المطلوب والناجح من التعاون الاقتصادي وصولًا إلى حد من الشراكة المطلوبة بشدة، بين لبنان ومحور المقاومة، في عالم متغير الفصول بسرعة، بما يترتب على هذا كله من بناء جسور الاتصال الدائم والمكثف، الذي يدفع إلى فضاء أوسع من التحالف الاقتصادي الذي ينمي ويعزز قدرات الشعوب ويفجر طاقاتها الخلاقة في النجاح والإبداع، بعيدًا عن الدوران في الفلك الأمريكي الدخل الحقيقي للخراب والأزمات.
والحقيقة أن كل بلد عربي، بحدوده الموروثة من "سايكس بيكو"، ومن حقائق أوضاعه الاقتصادية ونخبه السياسية الموجودة على الساحة، ويزيد على هذا في الحالة اللبنانية النضال المستمر ضد الكيان العدواني، لا يتحمل بالفعل تنفيذ الوصفة الجاهزة التي يضعها -أو يأمر بها- صندوق النقد الدولي، بما تفرضه من أعباء هائلة وغير مسبوقة على الطبقات الأكثر احتياجًا، ثم إنها بهذا الشكل تعرض استقرار الأوطان بشكلها الحالي إلى مخاطر وجودية، وليس أقل.
وإنه في حين أسلمت الطبقات الأكثر نفوذًا وفسادًا في كل دولة عربية نفسها إلى أشكال من الخيانة لم يسبق له مثيل، وأدت السيطرة على مقدرات البلاد إلى تركز الثروات بنسب مرعبة، وإلى انهيار الطبقة الوسطى بصورة تنذر بالخطر، فإن الطبقات المسحوقة تبحث فقط عن العزاء والسلوى وسط هذا كله، واللتان يوفرهما تجار التعصب وأمراء الإرهاب، وفي الصورة الكلية فإن المجتمعات تتحول إلى مناطق قتل مكشوف، وممنهج، للفقراء حصرًا.
والموازنة في مصر تأتي في هذا السياق، كاشفة للتوجهات والسياسات، بعيدًا عن تشنج الخطاب السياسي الزاعق، أو معسول الكلمات، ولأن السلطة في مصر مركزية تمامًا، تطوع نفسها على مقاس الحاكم، وفق هواه أو رؤيته، بدفع من قواعد راسخة، كما الجغرافيا التي جعلت من الوادي الضيق حول النيل شريان الحياة الأوحد والأهم، فالفرعون في مصر هو مناط كامل السلطة وكل الشرعية والسياسات، والأفكار حتى، يرى أن دور الدولة ينحصر في تجهيز وفرش الطريق للاستثمار الأجنبي، فتعمل كل الجهات والأجهزة على جذب ذلك الهدف، الذي يبدو كالعنقاء الأسطورية، لن يظهر على المسرح في الأمد المنظور.
تخلت الدولة عن دورها، كدولة، منذ أن اعتمدت سياسة الانسحاب من الواقع اليومي، تاركة الجمعيات الخيرية، ومؤسسات المال الدولية، تقوم بدور الموجه واللاعب الأساسي، وارتضت دكة البدلاء، لا تخرج إلا حين تتهدد السلطة، ولا تسمح في تفريط فيها، حتى وإن استبيحت السيادة بالكامل، وطفق مسؤولو صندوق النقد والبنك الدوليين يعطون الدروس ويعلنون الرغبات، ثم تنفذ سلطة الحكم وصفة العلاج الغربية، فإذا بالمريض شارف على النهاية، والأمل كسراب بعيد، لا يظهر حتى يختفي في صحراء الأحلام.