المفاجأة الأولى والأخيرة في خطاب السيد نصر الله
ايهاب زكي
للمرة الأولى وبشكلٍ مفاجئ لسياسة حزب الله، يفرج السيد حسن نصر الله عن رقم يخص هيكلة الجسم العسكري لحزب الله، وكان رقماً حصرياً ومحدوداً، وبمعزلٍ عن باقي الأجسام الهيكلية، والتي في كثيرٍ من مفاصلها يوجد العسكري وشبه العسكري. بدا الرقم كأنّه العمود الفقري بعيداً عن بقية الجسم، وهو مئة ألف مقاتل، وقال السيد "لو أشرنا لهم وليس أمرناهم أن يحملوا على الجبال لأزالوها"، وكان هذا الإعلان بمثابة مفاجأةٍ أولى.
ذكر السيد نصر الله هذا الرقم في سياق تحذيري لمن يظنّ أنّه بخمسة عشر ألف مقاتل يستطيع هزيمة حزب الله، ولكن سمير جعجع يمتلك من الحماقة ما يجعل هذا الرقم غير ذي أثر، لأنّ الجهل والحُمق أكثر ما يمنع إدراك وتقدير الخطر، لذلك يمكن اعتبار هذا الرقم رسالة لمن يُرجى عقله، وهو العدو الحقيقي الذي يرى في جعجع مجرد أداة، الولايات المتحدة و"إسرائيل".
وفحوى هذه الرسالة التي أفهمها، أنّ الإصرار على دفع الحمقى نحو افتعال حربٍ أهلية، سيكون الخطوة الأخيرة في طريق إنهاء النفوذ الأمريكي في لبنان، وكما قال السيد هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله "إننا لم نخض بعد معركة إنهاء النفوذ الأمريكي من مؤسسات الدولة اللبنانية"، وعليه قد يكون الإصرار على هذا الدفع، ساعة الصفر لبدء خوض تلك المعركة، وبشكل أسرع وأكثر يُسراً.
أمّا من جانبٍ آخر، فإنّ العدو "الإسرائيلي" سيقرأ هذا الرقم في إطار استراتيجيته لمواجهته المقبلة مع حزب الله، وهي استراتيجية يغلب عليها طابع اليقين بالهزيمة، لكنها لا زالت في مرحلة التوجس واللايقين من فكرة الزوال، لذلك يبدو هذا الرقم دافعاً نحو تأكيد الهواجس والتوجسات، خصوصاً إذا أخذ العقل "الإسرائيلي" بعين الاعتبار استثناءات السيد الكثيرة، في تحديد الرقم.
تحدث السيد حسن نصر الله بإسهابٍ عن الجامع الوطني، وعن علاقة حزب الله بالمسيحيين، وعقيدته الوطنية التي ينطلق منها، والحرص الشديد لدرجاتٍ شديدة الحساسية، حد منع دخول حتى المدنيين إلى قرى مسيحية عام 2000 عقب اندحار العدو الصهيوني، وليس فقط عدم دخول عسكريين أو مسلحين، وحد منع رفع أعلامٍ لحزب الله أو حركة أمل. إنّ طرفاً حريصاً لهذا الحد على مشاعر المسيحيين، هل يمكن اتهامه بالسعي لاجتياح أرضهم وعرضهم وأموالهم، والنظر إليه باعتباره عدواً يستدعي الاستنفار؟
إنّ خير من يدرك أهمية السلم الأهلي في لبنان، وخير من يدرك أهمية الوجود المسيحي في الشرق عموماً وليس في لبنان فقط، هو السيد حسن نصر الله، حيث إنّ الغرب الاستعماري يسعى لتفريغ الشرق من مسيحييه، لترسيخ فكرة الصراع بين شرقٍ إسلامي وغربٍ مسيحي، وهي قاعدة الحروب الصليبية ومنطلقاتها، واستراتيجية تهجير المسيحيين هي استراتيجية استعمارية، وتؤكدها أرقام الوجود المسيحي قبل نصف قرنٍ مقارنة مع أرقام اليوم، وكذلك تخدم هذه الاستراتيجية الوجود "الإسرائيلي".
إنّ الشواهد التي ساقها السيد نصر الله عن حماية حزب الله للمسيحيين أينما تواجد، وهي شواهد على سبيل المثال لا الحصر، في مقابل التهجير والدمار والقتل الذي تعرض له المسيحيون أينما تواجد جعجع وحزبه، يجب أن تكون أكثر من كافيةٍ لنبذ هذا الطرف وعزله مسيحياً، هذا فضلاً عن عزله وطنياً، حيث إنّه في الوقت الذي يعتبر فيه السيد نصر الله الدم المسيحي دماً مصاناً، يعتبره جعجع مجرد ورقة للاستثمار، وورقة للمساومة مع مشغليه الدوليين والإقليميين.
تعفف السيد نصر الله عن العودة أو التوغل كثيراً في التاريخ، للإضاءة على جرائم جعجع وحزبه الموصوفة والثابتة قضائياً، وهي جرائم يغلب عليها طابع الغدر والدموية، وقد كان الدم المسيحي الذي يدّعي حمايته جعجع، مسفوحاً على يديه ويلطخ جبينه، ولكن الأنكى أنّه رغم تلك الهمجية في سفك الدم، ظل تاريخه ملطخاً بالهزائم، وكأنّ هذا الشخص صنوّه الهزيمة، ويجب أن نطلق على الهزيمة اسم جعجع.
ومن تعففات السيد أيضاً أنّه تعفف عن ذكر اسم سمير جعجع، حتى أنّ الإعلام "الإسرائيلي" لاحظ ذلك، وقطعاً لم تكن هذه ملاحظة عبثية، وترفّع السيد نصر الله عن ذكر اسمه، هو بحد ذاته رسالة تنم عن مبدئية السيد أولاً في مواقفه، كما تنم عن استصغارٍ من جانبٍ آخر.
أصر السيد نصر الله على قدسية الجيش اللبناني، باعتباره الملاذ الأخير لوحدة لبنان أرضاً وشعباً، وباعتباره المؤسسة الجامعة، ولكن هذا لا يعني غض الطرف عن بعض التجاوزات، التي يجب أن تخضع للتحقيق والمحاسبة، وهذا يعني أنّ السيد نصر الله هو الأكثر حرصاً على هذه المؤسسة، حتى من الخدش اللفظي لبعض المندفعين المتحمسين أو الغاضبين، وهذا الحرص يشكل دليلاً قاطعاً على أنّ حزب الله هو الأكثر تمسكاً بالدولة ورموزها، كما هو وضع ملف جريمة الطيونة وما قبلها من جرائم في عهدة الدولة ومؤسساتها، مع تحمل واجب المتابعة والتحذير من التهاون.
وجه السيد نصر الله في آخر خطابه، رسالة لجمهور المقاومة كانت بمثابة المفاجأة الأخيرة في خطابه، وكان مفادها "أنّ المحاولات الأمريكية لافتعال حربٍ أهليه، هي اللغم الأخير"، أي أنّ السيد نصر الله يقطع بأنّ الجعبة الأمريكية فارغة، والجعبة "الإسرائيلية" أكثر خواءً، ولكن الرسالة الأهم هي ما قاله عن نهاية طريق الصبر والبصيرة، حيث قال "إن الصبر والبصيرة سيأتيكم بفرج ونصرٍ لا تتوقعونه"، والحقيقة أنّ جمهور المقاومة لا يتوقع منها سوى الانتصارات والمفاجآت، ويقف في خندقها عن بصيرة، والشيء الوحيد الذي سيفاجئ جمهور المقاومة، هو ألّا تكون كما يراها ويعرفها، صابرة مهابة متبصرة ومنتصرة.