الانتخابات العراقيّة.. جدل النّتائج والمخرجات
عادل الجبوري
المسار العام للعملية السياسية في العراق لن يتبدل كثيراً، هذا في حال طرأ عليه تغيير فعلي يعتدّ به، لأن القوى الكبيرة لا بدَّ من أن تحقق تفاهمات الحد الأدنى لتنتقل إلى الخطوات اللاحقة.
في تعليق مقتضب، لكنه معبر ودقيق، قال سياسي عراقي لم يكن من بين المشاركين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، "إن النتائج التي أعلنتها مفوضية الانتخابات بعد أقل من 24 ساعة على إغلاق مراكز الاقتراع، شكَّلت صدمة أو صدمات للكثير من الخاسرين، وكذلك بعض الفائزين، ولن تزول آثار تلك الصّدمة قريباً، بل إنها ستمتدّ إلى الخطوات الأخرى المرتبطة بمخرجات الانتخابات، كتشكيل الكتلة الأكبر، وتوزيع مواقع رئاسة البرلمان، ومن ثم رئاسات اللجان البرلمانية، ورئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة وتقاسم الحقائب الوزارية".
بالفعل، كانت الصّدمة أو الصّدمات كبيرة وقويّة جداً، إذ إنه رغم التصوّر المسبق لدى العديد من النخب السياسية والأوساط الجماهيرية بحصول متغيّرات في المشهد السياسي العام في العراق من خلال الانتخابات البرلمانية المبكرة، لم يكن أحد يتوقّع أن تكون المتغيرات بهذا القدر. ولعلَّ الأرقام الأولية التي أعلنت عنها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تعكس ذلك، وهي في كلّ الأحوال لن تختلف إلا بحدود ضئيلة عن الأرقام والنتائج النهائية المتوقّع إعلانها بعد أسبوعين في أبعد التقديرات.
وفيما لم تكن الأرقام في السّاحتين السنيّة والكرديّة صادمة ومفاجئة إلى حدّ كبير، فإنها جاءت كذلك في الساحة الشيعيّة، فالتيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، حصد 73 مقعداً، بعدما كان يشغل 54 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته، في حين تراجع تحالف "الفتح" الّذي كان يعد المنافس الأقوى للتيار الصدري بصورة حادة جداً، إذ حصل على 14 مقعداً، بعدما كان يشغل ما يقارب 50 مقعداً، والشّيء نفسه بالنسبة إلى تحالف قوى الدّولة الوطنيّة بزعامة كلٍّ من رئيس تيار "الحكمة" السيد عمار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، الذي كان يفاخر ويتعهد بأحداث مفاجئة، اكتفى بـ4 مقاعد، بواقع مقعدين لكلٍّ منهما، علماً أنَّ تيار "الحكمة" كان له 16 مقعداً، وكان للعبادي عدد مقارب.
في مقابل ذلك، نجح ائتلاف "دولة القانون"، بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، برفع رصيده في هذه الانتخابات، من 25 مقعداً إلى 37 مقعداً، وهذا يعني أنَّ الصدر والمالكي هما من أحرزا تقدماً واضحاً في الساحة الشيعية، إلى جانب تراجع كل من الحكيم والعبادي في إطار تحالف قوى الدولة، والعامري والخزعلي في إطار تحالف "الفتح"، وكذلك الفياض الذي خاض السباق الانتخابي متزعماً تحالف "العقد الوطني"، علماً أنه كان يمتلك 6 مقاعد في البرلمان السابق.
وفي الوقت الذي أفلح الحراك التشريني الذي مثّلته حركة "امتداد" في إحراز 9 مقاعد، في أول تجربة تنافس انتخابي له، أخفقت وجوه سياسية بارزة، كان متوقعاً أن تسجل حضوراً وتحقق مكسباً يتيح لها أن تشغل حيزاً إلى جانب الكبار. ومن أبرز الخاسرين، سواء ممن خاضوا غمار السباق الانتخابي شخصياً أو عبر كيانات سياسية تولوا زعامتها، رئيس تجمع اقتدار وطن عبد الحسين عبطان، ورئيس حركة الوفاء عدنان الزرفي، ورئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي، وكذلك رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري، والوزير السابق محمد صاحب الدراجي، والوزير السابق خالد العبيدي، والنائب ظافر العاني، ووزير الشباب والرياضة الحالي عدنان درجال، والقيادي السابق في التيار الصدري بهاء الأعرجي...
وفي ما يتعلّق بالنساء، بحسب نظام الكوتا، تبلغ حصة المرأة في البرلمان العراقي 83 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 329. وحتى الآن، أظهرت النتائج حصول النساء على 97 مقعداً، وبعضهن من خارج قائمات الكيانات والتحالفات السياسية، أي من أوساط المستقلين، علماً أن عدد الفائزين منهم تجاوز 20 مرشحاً، وهو مؤشر على وجود مساحة جماهيرية غير صغيرة ابتعدت عن المساحات الحزبية المؤدلجة.
ومن خلال النتائج والأرقام المعلنة، يبدو أن هناك 3 تحالفات أو كتل سياسية شيعية، سيكون دورها محورياً في تحديد المسارات المقبلة، وإن بدرجات متفاوتة، وهي التيار الصدري وائتلاف "دولة القانون" وتحالف "الفتح". ولا شكّ في أن حصول التيار الصدري على المركز الأول، وبفارق كبير عن ائتلاف "دولة القانون"، لا يعني أن الطريق أمامه ستكون سالكة، بل إن عقبات ومصاعب جمة ستواجهه، فهو يحتاج أولاً، وقبل الذهاب إلى الفضاء السني والكردي، إلى صياغات تفاهمات والتوصل إلى توافقات مع شركائه في الفضاء الشيعي. ومن دون ذلك، لن تسير الأمور بسلاسة ومرونة، إذ إنَّ رئيس الوزراء يفترض أن يخرج من رحم المكون الشيعي، ليحظى بقبول المكونين السني والكردي، بالترابط مع التوافق على حسم رئاستي الجمهورية والبرلمان في الدرجة الأساس.
وبسبب تراكم الاحتقانات والخلافات بين الصّدر والمالكي على امتداد 15 عاماً، والاستقطابات الحادة، وتشتت جزء من الحصة الشيعية في البرلمان المقبل بين كتل صغيرة ونواب مستقلين، وانعدام المرجعية السياسية المقبولة، فإنَّ مرحلة ما بعد الانتخابات ستشهد الكثير من الارتباك في ساحة المكون الشيعي، وبالتالي قد تتطلّب عملية حسم المرشح لرئاسة الحكومة المقبلة وقتاً طويلاً، لن يكون أقلّ مما كان عليه الأمر في المرات السابقة.
فضلاً عن ذلك، إنَّ الجدل والسجال الدائر حالياً بشأن صحّة النتائج المعلنة، والاعتراضات التي وصلت إلى حد التهديد بتحريك الشارع والعصيان والتمرد، يمكن أن يفجّر الموقف في ما إذا لم يتم ضبط إيقاعه واحتواؤه، علماً أنَّ البعد السياسي في ذلك الجدل والسجال أخذ شيئاً فشيئاً يطغى على البعد القانوني والسياقات الإجرائية لعمل المفوضية.
حجم التشابكات والتعقيدات في المشهد السياسي الشيعي، ينبغي أن لا يصرف الأنظار عن تشابكات المشهدين الكردي والسني وتعقيداتهما؛ ففي البداية، بدأ الحراك والصراع والتنافس للاستحواذ على منصب رئاسة الجمهورية بين الحزبين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، فالأخير يرى أنه بعد أن تنازل عن هذا المنصب للاتحاد طيلة 16 عاماً، لم يعد مبرراً أن يقدّم المزيد من التنازلات، وخصوصاً مع ضعف الاتحاد الوطني وتفكّكه بعد رحيل زعيمه جلال الطالباني في تشرين الأول/أكتوبر 2017.
أكثر من ذلك، يرى حزب البارزاني أنَّ برهم صالح استحوذ على المنصب قبل 3 أعوام، بعد أن تجاوز مبدأ التوافق والتفاهم المعمول به، ناهيك بأنَّ الديمقراطي، الذي حصل على 32 مقعداً مقابل 17 مقعداً لغريمه الاتحاد، يعتقد في ضوء هذه الأرقام، أنّه الأحقّ بالمنصب، لكن ما ينبغي التنبيه إليه هو أنَّ تفاهمات القوى الكردية حول تقاسم المواقع المخصصة للكرد في بغداد مرتبطة بتقاسم المواقع في الإقليم، وخصوصاً رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة المحلية فيه.
وفي المشهد السياسي السني، مع تزايد فرص واحتمالات بقاء محمد الحلبوسي متربعاً على كرسي رئاسة البرلمان، بعد حصول تحالف "تقدم" بزعامته على 42 مقعداً، تاركاً خلفه بمسافة بعيدة غريمه اللدود تحالف "عزم" بزعامة خميس الخنجر، بعدما أحرز الأخير 14 مقعداً فقط، إلا أن التسابق بين الطرفين لكسب الكيانات والشخصيات الفائزة الأخرى، بدا على أشده بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات مباشرة، ناهيك بالتحرك على القوى السياسية الرئيسية من المكونات الأخرى، ولا سيّما المكون الشيعي.
هذا الجدل والسجال حول نتائج الانتخابات ومخرجاتها، والحراك المبكر لترتيب وصياغة معادلات التحالفات والاصطفافات لضمان أكبر قدر من المكاسب والنفوذ والتأثير، يؤشر في ما يؤشر إليه، إلى أن المسار العام للعملية السياسية في العراق لن يتبدل كثيراً، هذا في حال طرأ عليه تغيير فعلي يعتدّ به، لأن القوى الكبيرة لا بدَّ من أن تحقق تفاهمات الحد الأدنى لتنتقل إلى الخطوات اللاحقة، والقوى الصغيرة لا بدّ من أن تتحالف أو تصطفّ أو تنضوي تحت مظلة هذا الكيان السياسي الكبير أو ذاك، حتى يكون صوتها مسموعاً ومؤثراً، والتفكير في المكاسب والمواقع والامتيازات لن يغادر العقليات السياسية القديمة والجديدة على السواء.
ولأنّ الانطباعات والقناعات الراسخة لدى جمهور واسع بهذا الشكل، كانت المشاركة متواضعة - (41%) وفق ما أعلنت المفوضيّة، وقد تكون النّسبة الحقيقيّة أقل من ذلك - والمقاطعة كبيرة. وتلك رسالة مهمّة وعميقة وبليغة يجب أخذها بعين الاعتبار، أياً كانت طبيعة النتائج والمخرجات والمعطيات وجوهرها.