قراءة أميركيّة لتوسّع النفوذ الإيرانيّ
هدى رزق
تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير استراتيجيتها في المنطقة بعد الخسائر التي مُنيت بها، وتحاول الاستفادة من أخطاء سياساتها. ماذا عمّا لم تعترف به؟
تعيش الولايات المتحدة "حالة إنكار" حين تتطرق إلى أسباب توسع النفوذ الإيراني، وهي لا ترى أن تمتين التحالفات العميقة بين إيران وحلفائها كان بسبب عدوانها واحتلالها ومحاولة هيمنتها الإمبريالية، التي أدت إلى ولادة قوى معارضة لم تلبث أن تحولت إلى محور ممانع ومقاوم لهذه الهيمنة، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان إلى فلسطين، بل تحاول تصوير المتحالفين ضد مشاريعها كتابعين لإيران، من دون أن يكون لديهم حوافز لمقاومة هيمنتها التي تلطّت خلف شعارات بدأت بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتهت بالتدخل العسكري والتفكير في كيفية الانسحاب والتخطيط لما بعده لإبقاء هذه الهيمنة.
سوريا وإيران في وجه الهيمنة الأميركية
ترى الولايات المتحدة أن المحور الإيراني السوري و"حزب الله" صعَّبا عليها الانتصار في العراق وسوريا، وتعتبر أن إيران تتدخل في الدول من أجل قلب ميزان القوى لمصلحتها وتعزيز نفوذها، وهي بذلك تعتمد على وجود حكومة صديقة أو شركاء مؤثرين من غير الدول كحلفاء أو شركاء، وتؤكد أن طهران تتدخل في الدول ذات السلطات المركزية الضعيفة والانقسامات الحادة، وأن الدول الهشة والفاشلة وتلك المنخرطة في حرب أهلية عادة ما تكون ناضجة بشكل خاص للتدخل الإيراني.
يتجاهل التحليل أسباب التحالفات التي بدأت مع سوريا وليبيا واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ بداية الثورة الإيرانية 1979، ومرور العلاقة السورية - الإيرانية بتحديات أربعة كانت جميعها من صنع الأميركي من أجل الوصول إلى الفوضى، وكيف أدت هذه التحديات إلى تمتين أواصر التحالف بين البلدين.
تمثل التحدّي الأول بالحرب الإيرانية – العراقية في العام 1980 التي شكلت عاملاً كابحاً لتطوير إيران علاقات اقتصادية واجتماعية وسياسية مع الدول العربية.
أما التحدي الثاني، فحدث بعد غزو الكويت من قبل الرئيس العراقي صدام حسين، بتشجيع أميركي وفائض قوة استشعرها من حربه مع إيران، ما سهّل تواجد القوات الأميركية في الخليج بحجّة حمايتها، وترافق مع انهيار الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي أدى إلى تحولات جيوسياسية إقليمية ودولية وجدت فيها سوريا نفسها الخاسر الأكبر لحليف تاريخي ارتكزت عليه في مشروعها الأمني والاقتصادي، ولم تربح من مشاركتها في حرب الخليج، بل واجهت ضغوط مؤتمر مدريد، الأمر الذي وجّهها نحو مرحلة جديدة. أما إيران، فضاق هامش المناورة أمامها، واعتبرت انتشار الجيش الأميركي في الخليج تهديداً لأمنها القومي، فيما كانت نتيجة الغزو مدمرة على العراق، إذ أنهت قوته وكشفت الجبهة الشرقية.
بدا التحدي الثالث، وهو الغزو الأميركي للعراق 2003، كتهديد وجودي لكلٍّ من سوريا وإيران أمنياً واستراتيجياً، حتى أصبحتا هدفاً مباشراً للأميركي. سرّعت الدولتان التعاون العسكري والتقني عبر التصنيع العسكري والاستراتيجي والجيوسياسي مع الدعم الإيراني السوري المشترك لحليف ثالث هو "حزب الله" في لبنان، وتحوّلت العلاقة مع سوريا بالنسبة إلى إيران إلى رهان استراتيجي يرتبط بالأمن القومي الإيراني.
ومع اندلاع أحداث العام 2011 في سوريا، بدا التحدي الرابع واضحاً، إذ أصبح التحالف السوري الإيراني عاملاً مؤثراً في التوازن الاستراتيجي في الصراع مع أميركا و"إسرائيل". في خضم هذه الأحداث، أعلنت إيران أنَّ على العالم أن يعلم أنها ستقف خلف الشعب السوري إلى النهاية، وأن الروابط الإقليمية قوية للغاية. هكذا تشكّلت الجبهة الجديدة مع "حزب الله" في مواجهة التحالف الأميركي - الإسرائيلي ومن يسانده من العرب والقوى الأخرى.
تذهب واشنطن في تحليلها إلى النتائج، وتؤكّد أن إيران بنت نفوذها تدريجياً في العراق مع تدخّلها في العام 2003، متجاهلةً أنها كانت ملاذاً للمعارضة العراقية، وتستنتج أنَّ التوترات العرقية أو الطائفية إلى جانب الحكومات الضعيفة هي التي سهّلت التدخل الإيراني، من دون الاعتراف بأنها الطّرف الّذي حوّل بعض البلدان العربية إلى دول فاشلة وضعيفة لتسهل هضمها، فإذا بها تخسر الرهان.
سياسة العقوبات تتمّة للحرب على سوريا بوسائل أخرى
بعد خسارتها رهان إسقاط النظام في سوريا من أجل قطع التواصل العسكري والسياسي بين سوريا وإيران، لجأت أميركا إلى سياسة العقوبات القصوى. وقد كان لتشديد العقوبات الأميركية على إيران آثار غير مباشرة في شكل نقص الوقود وتضخّم الأسعار، لكن في سوريا هدفت العقوبات الثانوية الشاملة التي أقرَّها الكونغرس الأميركي في كانون الأول/ديسمبر 2019 بشكل خاص إلى منع إعادة الإعمار.
أدت إيران قبل اندلاع الحرب دوراً اقتصادياً متواضعاً في سوريا، لكن تطور دورها بشكل متزايد خلال السنوات الماضية، فبعد تدمير جزء كبير من قطاعات البنية التحتية والإنتاج في سوريا، دخلت إيران في العديد من الاتفاقيات والعقود الاقتصادية مع الدولة السورية من أجل إعادة بناء هذه القطاعات، والتي تشمل البنية التحتية والكهرباء والصحة والتمويل وإنتاج الأغذية وتوريدها.
تخضع سوريا للعقوبات الشاملة ضد رجال الأعمال والمؤسسات من أجل تقديم التنازلات السياسية. جميع المؤشرات تشير إلى أنَّ الإجراءات ساهمت بشكل كبير في الانكماش الاقتصادي وعرقلة التحويلات والواردات الغذائية، وزادت من تكاليف الإنتاج، وأثرت سلباً في إنتاج السلع الطبية، وأدت إلى زيادة البطالة وخفض الأجور والرواتب وزيادة كلفة المعيشة.
منحت إيران الحكومة السّورية قروضاً كبيرة في السَّنوات الأخيرة، كما عوّلت على تعزيز روابطها مع المجتمعات المحلية السورية. وبينما تسعى دول الخليج من أجل الاستثمار وإعادة العلاقات مع سوريا، تصطدم بعدم رفع العقوبات الأميركية. ويشكّل هذا الموضوع مصدر شكوى الاتحاد الأوروبيّ الّذي يحاول استعادة العلاقة مع سوريا عبر المساهمة بإعادة الإعمار.
واشنطن تضع نصب عينيها تحجيم نفوذ إيران
تسعى الولايات المتحدة إلى تغيير استراتيجيتها في المنطقة بعد الخسائر التي مُنيت بها، وتحاول الاستفادة من أخطاء سياساتها، لكنها لا تعترف بأنها عملت على إضعاف الدول، وتعمل على تقوية الحكومات المركزية الحليفة، لكي تشكل حصناً مهماً ضد الأنشطة الإيرانية في المنطقة. وما سياسة التطبيع سوى جزء من هذه السياسة، إذ يمكن للحكومة الأميركية بشكل عام، والجيش الأميركي بشكل خاص، الاستفادة من التعاون الأمني مع شركائها الإقليميين لمنع إضعاف السلطات المركزية، والتي تعتبر أنها تمهّد الطريق للتدخّل الإيراني، وتركّز على بناء القدرات، مثل التدريب ونقل المعدات.
الولايات المتحدة نشطة بالفعل في هذه المجالات مع العديد من شركائها الإقليميين، وهو ما قامت به بعد محادثات مع العراق، من خلال تفعيل التعاون والتدريب. وقد عادت إلى دعم الأردن وحكومته لتمكين قدراته، وهي تدعم العلاقة المصرية الأردنية العراقية والمصرية الإسرائيلية اليونانية القبرصية من أجل الدفع بكونسورتيوم الغاز لتعويم الاقتصادات وإضعاف الغاز الروسي والمصالحة الخليجية، كما تدعم الشراكات مع منظمات غير حكومية من أجل بناء قدرات الدول في جميع أنحاء المنطقة، من أجل الحد من فرص التأثير الإيراني في المستقبل، وتجد أنّ الوسيلة الأنجع لاختراق الطائفة الشّيعيّة هي تشجيع المجتمع المدنيّ الحامل لأفكار غير دينيّة. وبهذا، تصعب على إيران وحلفائها من الشيعة فرصة التماسك والتمدد.
كذلك، تعمل على إحياء مشاريع كانت مدرجة في أوائل التسعينيات من أجل التنفيذ - لو نجح مؤتمر مدريد 1995 - وهي تعتبر أنَّ إيران ما زالت الدولة الإقليمية القوية الرافضة وحلفاءها للتطبيع، ما يجعل منها دولة خطرة على مستقبل المنطقة.
رغم العمل الأميركي الدؤوب للعودة إلى الاتفاق النووي، وتصريحات وزير الخارجية الإيرانية بعودة إيران إلى طاولة المفاوضات، تضع الولايات المتحدة ضمن أولوياتها محاربة النفوذ الإيراني، وتعتبر أن دولاً كروسيا والصين الطامحة إلى تقاسم الأدوار في العالم، ستصطدم بالنفوذ الإيراني في غير منطقة، ولا سيّما أنّ هذا النفوذ يتمدّد حيث الأقليات الشيعية في آسيا والشرق الأوسط. ولطالما راهنت أميركا على الخلاف الإيراني الروسي في سوريا، وهي تراهن اليوم على الخلاف الحدودي بين أذربيجان وإيران، وبين إيران وطالبان في أفغانستان.
لا شك في أنَّ "إسرائيل" الساعية أبداً إلى ضرب نفوذ إيران هي الشريك الأساسي للأميركيّ في مجمل هذه الموضوعات، والذي أقنعها بضرورة الالتزام بسياساته، وهو كفيل بتنفيذ مهمة إقصاء نفوذ إيران من فلسطين إلى آسيا.