النفوذ التركي في آسيا الوسطى والقوقاز يصطدم بإيران وروسيا
هدى رزق
ترى تركيا الّتي تستخدم علاقتها مع أذربيجان في صراعها مع إيران أنَّ طهران وموسكو تقفان سداً منيعاً في وجه مشاريعها في سوريا وآسيا الوسطى.
سعت تركيا للعمل على ميزتها الجغرافية ومحاولة التوسّع لتثبت أنها قوة إقليمية، من سوريا وليبيا وشرق المتوسط والبحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى، ولتثبت لواشنطن أنها جديرة بأن تكون إلى جوارها، وهذا أحد أهدافها الرئيسية، فهل ستبقي إدارة بايدن أبواب المفاوضات مغلقة أمام تركيا، حليفتها في الناتو، وسط صعود الصين وروسيا؟
لطالما رأى السياسيون الأتراك، وخصوصاً الرئيس السابق تورغوت أوزال، أنَّ على تركيا توسيع نفوذها وأن تعمل على تعزيز أهميتها الاستراتيجية للغرب، واعتبر أنَّ وسط آسيا هو ميدانها الأساسي. أقامت تركيا علاقات مع الدول التي استقلَّت عن الاتحاد السوفياتي بعد الحرب الباردة في آسيا الوسطى، إلا أنها وجدت صعوبة في توسيع نفوذها في تلك المنطقة، وذلك لعدة أسباب، أهمها أن الحكام في آسيا الوسطى لم يتحمّسوا "للنموذج التركي"، باستثناء أذربيجان، فمعظم النخب في آسيا الوسطى تستخدم اللغة الروسية متأثرةً بالهويّة الروسية ثقافياً كلغة مشتركة للتواصل مع جيرانها، ما قلَّص قدرة تركيا على تحقيق تقدم سياسي.
العلاقات الأذربيجانية - التركية
ترى تركيا أن التعاون العسكريّ مع أذربيجان وسيلة لتعزيز علاقاتها مع مصدر مهم للطاقة في بحر قزوين. وقعت باكو وأنقرة "اتفاقية الشراكة الاستراتيجية والمساعدة المتبادلة" في العام 2010. وفي العام 2011، وقعت اتفاقيات مهمة حول نقل الغاز الأذربيجاني إلى السوق الأوروبية عبر الأراضي التركية، كما تم تعزيز التعاون العسكري.
وقد زادت وتيرة المناورات العسكرية المشتركة بين تركيا وأذربيجان ونطاقها على حد سواء في باكو والقطاع المستقل لناخيتشيفان. كانت هذه المناورات مرتبطة بمناوراتٍ بحرية قامت بها إيران في بحر قزوين. يتحرك الرئيس التركي إردوغان ضمن هذه الدائرة، إذ رأى في العام 2020 فرصة لتغيير الوضع في كاراباخ. أدركت أنقرة أنّ الصراع يوفّر لها فرصة لإلقاء ثقلها الدبلوماسي والعسكري والتكنولوجي وتوسيع دورها في المنطقة، ولو تحدَّت دول مينسك: فرنسا والولايات المتحدة وروسيا بالتحديد.
العلاقات الصعبة بين إيران وأذربيجان
كانت طهران قد ركّزت اهتماماتها في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز على تقديم المساعدة التقنية والمالية وتوسيع العلاقات الثقافية، فجميع دول المنطقة ناطقة بالتركية، وروابطها الثقافيّة والتاريخيّة مع تركيا أقوى من علاقاتها مع إيران، التي تربطها علاقات مميّزة مع أرمينيا وطاجيكستان، لكنَّها دعمت باكو أثناء تحرير كاراباخ علناً، وعرضت التوسط، كجزء من جهودها الدبلوماسية في الصراع الذي يشكّل تهديداً لاستقرارها الداخلي، فهي تخشى من بث وتشجيع النزعة الانفصالية في أوساط الأقلية الآذرية التي تبلغ نسبتها نحو 25% من عموم السكان، وتعي خطر زيادة التدخل التركي عند حدودها وأداء تركيا دوراً هوياتياً.
كان يهمّها أن تمسك موسكو بزمام الأمور، وأن يشير الاتفاق الثلاثي إلى قوات حفظ السلام الروسية فقط، وليس القوات التركية، كما اقترحت باكو في أحد بنود اتفاقية الهدنة، والذي يسمح لأذربيجان بإنشاء ممر عبور عبر جنوب أرمينيا، ما قد يضرّ بالمصالح الاقتصادية لإيران، فالروابط البرية بين أذربيجان ومقاطعتها ناختشيفان كانت تمر عبر الأراضي الإيرانية. أما الممر الجديد الذي أُنشئ، فقد قلّل من نفوذ إيران على أذربيجان، وكسبت تركيا من هذا الممر، ما قد يؤدي إلى إنشاء طريق مباشر إلى آسيا الوسطى.
بعد السيطرة على جزء كبير من كاراباخ، بدأت باكو بإظهار عدم ارتياحها تجاه الشاحنات الإيرانية. إيقاف الشاحنات الإيرانية عن طريق أذربيجان وجدته إيران غير مقبول، ورأت أنه يهدد الأمن التجاري لطهران عبر غرب آسيا. في آب/أغسطس 2021، بدأ الجنود الأذربيجانيون بإساءة معاملة سائقي الشاحنات الإيرانيين على طول طريق جوريس كابان السريع الذي يربط إيران بأرمينيا عبر منطقة ناغورنو كاراباخ التي تديرها أذربيجان حديثاً. مرة أخرى، تجنبت طهران القضية بسرعة، وقبلت تفسيرات أذربيجان حول مضايقة سائقي شاحناتها.
الخطر الأهم بالنسبة إلى إيران هو تدعيم العلاقات الدفاعية والاستخباراتية بين أذربيجان و"إسرائيل"، ما يشكل مصدراً آخر للتوترات، ويعطي زخماً أكبر جراء إبرام صفقة أسلحة بلغ ثمنها 6.1 مليار دولار بين أذربيجان و"إسرائيل" في فبراير/شباط 2012. اتّهمت إيران أذربيجان بأنها ستصبح حصان طروادة الذي ستستخدمه "إسرائيل" لتنفيذ هجمات إرهابية ضدها، حيث بدأ الصراع الإيراني الإسرائيلي بالتحول إلى القوقاز.
كما تختلف إيران وأذربيجان أيضاً حول تقاسم موارد طاقة بحر قزوين الضخمة، والتي تقدر قيمتها بما يقارب 3 تريليون دولار، وتنازع الدول الخمس المطلّة على بحر قزوين - وهي روسيا وإيران وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان - بشكل مستمر منذ سنوات حول ترسيم قاع بحر قزوين.
هل من تحالفات جديدة بين تركيا وباكستان وأذربيجان تقلق طهران؟
تقع باكستان عند الحدود الشرقية لإيران، بينما تقع تركيا وأذربيجان عند حدودها الشمالية الغربية والشمالية على التوالي. عندما أجرت تركيا وأذربيجان وباكستان تدريبات عسكرية مشتركة، شكَّكت الخارجية الإيرانية في شرعية هذه التدريبات، مؤكّدة أنَّ الوجود العسكري للدول غير المطلة على البحر غير قانوني، وفقاً للاتفاقيات القانونية لبحر قزوين.
وقد اعتبرت التحالف موجهاً ضدها وضد الهند وروسيا، والتي تعد من بين أكبر منافسي هذا التحالف في أفغانستان وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. نشرت إيران قوات على طول الحدود مع أذربيجان، رداً على التدريبات التركية الأذربيجانية الباكستانية المشتركة الأخيرة، كطلقة تحذير للجارة من أنَّ الأمور لا تسير على ما يرام بينهما، وعلَّلت إيران أنَّ التدريبات تهدف إلى ضمان "سيادة" طهران.
وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إنَّ "إيران لن تتسامح مع وجود الكيان الصهيوني قرب حدودنا". هدف هذا التصريح هو اعتبار نيات هذه الدول حيال إيران عدوانية، وخصوصاً أن لها علاقات مع "إسرائيل" التي تتربّص بها. أما "الصهيونية"، فهي لا تقتصر على الإسرائيلي، إنما على من يضمر نيات عدوانية، وهي تتهم ضمناً أذربيجان بالتنسيق مع الاستخبارات الإسرائيلية.
ترى تركيا الّتي تستخدم علاقتها مع أذربيجان في صراعها مع إيران أنَّ طهران وموسكو تقفان سداً منيعاً في وجه مشاريعها في سوريا وآسيا الوسطى، وأن إيران تقف وراء المطالبة العراقية بانسحابها من الشمال ومن بعشيقة والقواعد التي أنشأتها هناك.
المشروع التركي الشامل لأنقرة هو أن تصبح القوة المهيمنة في آسيا الوسطى. ونظراً إلى أن سياستها الخارجية تسترشد بسياسات الهوية، وضعت تركيا أيضاً قدراً كبيراً من الثقة والتعاون مع باكستان، لكونها دولة مسلمي جنوب آسيا، ولديها تأثير في أفغانستان ومشكلات مع الهند، ولا سيَّما أنّ المفكّرين الباكستانيين انخرطوا مؤخراً في مراجعة تاريخية، زاعمين أنَّ الباكستانيين اليوم هم من نسل أمراء الحرب والمغول الأتراك الَّذين غزوا شمال الهند خلال الألفية الماضية.
هل يجب أن تنسى تركيا الَّتي ترى نفسها مركزاً مهيمناً لمجال نفوذ يمتدّ من إسطنبول إلى غرب الصين، أن روسيا هي القوة الرائدة في المنطقة، وصاحبة النفوذ الأوسع نطاقاً في آسيا الوسطى والقوقاز من تركيا أو إيران، والعائق الحقيقي للتوسع التركي؟ فموسكو تتمتع بعدد من المزايا المهمة في التنافس على النفوذ، ومنها القرب الجغرافي وأنماط التجارة التي أنشأتها ومسارات الطاقة والروابط الثقافية الوثيقة.