زيارة عبد اللهيان.. وواقع لبنان
ايهاب زكي
في رسالةٍ وجهها "ديفيد بن غوريون" لوزير الخارجية الأمريكية "فوستر دالاس"، وذلك في عام 1953، جاء ما يلي: "إنكم مهتمون بمصر، رغم أنّ "إسرائيل" تملك نفس المزايا، فكلاهما يطل على البحر الأبيض والبحر الأحمر، وهي مهيأة لحفر قناة جديدة تصل بينهما".
وهذا سعيٌ مبكر لوراثة الدور المصري، لكنه سعيٌ يشوبه العوّار من كل جانب، حيث إنها رؤية موغلة في التقنية، ولا تستند لأيّ عوامل دينية أو تاريخية أو سياسية أو ثقافية أو حضارية، وإلى آخره من العوامل الفاعلة والفعلية.
ولكن هذه العوامل التي يفتقر إليها كيان العدو، هناك طرفٌ يستطيع توفيرها، وهو المملكة العربية السعودية، وهذا ما كانت تسعى له، حيث كان ملوك آل سعود بأوامر ومساعدات أمريكية، يسعون لتحطيم عبد الناصر لوراثة دوره الريادي، ووراثة دور مصر التاريخي والمفصلي.
هذا التكامل بين الكيان الصهيوني ومملكة آل سعود لم يتغير، ما تغيّر فقط هو الولايات المتحدة، حيث لم تعد تريد جناحين لتحلق بهما في سماء المنطقة، بل أصبحت تريد جسداً متكاملاً للعب دورها، خصوصاً أنّها تسعى للانسحاب من المنطقة، ولا تريد للفراغ الناجم عن انسحابها، أن تملأه قوى محور المقاومة الصاعدة، أو حتى قوى دولية كروسيا والصين.
وبما أنّ دور مصر عبد الناصر، في استراتيجيات التحرر ومحاربة الاستعمار، ورثته إيران، أصبحت هي هدف الحرب والحصار والشيطنة، حتى أنّ مجرد زيارة لوزير خارجيتها للبنان، تصبح وجهاً آخر لـ"للاحتلال الإيراني"، وأنّ إيران تكسر حصارها من لبنان، ولا تكسر حصار لبنان.
بينما لم يعتبر هؤلاء أنفسهم الذين يطلقون هذه التصريحات أنّ زيارة الرئيس الفرنسي تكريس للاحتلال أو التبعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الهائل، بين الوقاحة والاستعلائية الفرنسية، في لغة مانويل ماكرون، وبين الكياسة الإيرانية في لغة حسين أمير عبد اللهيان، وبين الوعود المشروطة لماكرون، والوعود بلا شروط لعبد اللهيان، سوى موافقة الرسمية اللبنانية.
هناك أمران لا يجب أن يتغافل عنهما صانع القرار اللبناني، وذلك حتى يستطيع لبنان الخروج من أزمته، وحماية نفسه من التغول الأمريكي، أولهما، أنّ هناك محورا منتصرا، مقابل طرفٍ مهزوم، وهذا الطرف يحاول عبثاً تضخيم ثمن الانتصار، وتأخير وقت إعلانه النهائي، ثانيهما، أنّ مملكة آل سعود لا تملك هامشاً من حرية الحركة، بعيداً عن بيت الطاعة الأمريكي.
إنّ أخذ هذين العاملين بعين الاعتبار، سيجعل من القرار اللبناني قراراً متسقاً مع مصالحه، وسيكون بعيداً عن هزّاتٍ تصيب الطرف المهزوم، أمّا البقاء في المنتصف انتظاراً لنتائج إيجابية متوخاة من مباحثات إيرانية سعودية، فهو انتظارُ أعمى وأصم على سكة قطارٍ سريع.
فالمباحثات السعودية الإيرانية، هي مجرد ورقة أمريكية في مباحثات فيينا النووية، والحقيقة المطلقة أنّه بعيداً عن المصالح الأمريكية والأهداف "الإسرائيلية"، لا يوجد ما تبرر به السعودية عداءها اللدود لإيران، إلّا إذا اعتبرنا أنّ مواقيت الحج ومناسكه وعدد الحجاج، معضلات بحاجة لجولات طويلة ومضنية من التفاوض.
لذلك لا يوجد مطالب سعودية على طاولة التباحث مع إيران، بعيدة عن الرؤية الأمريكية والمصلحة "الإسرائيلية"، من الملف اللبناني والعراقي والسوري والفلسطيني، وحتى وصولاً للملف اليمني، فالحرب السعودية على اليمن هي حربٌ أمريكية "إسرائيلية"، لا علاقة لها بمصلحة الشعبين السعودي واليمني، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فإيران لا تستطيع البتّ في أيٍ من هذه الملفات، حيث إنّها ملفات ليست على قارعة الطريق، بل لها أصحابها الذين يقررون في شأنها.
وعلى افتراض انتظار نتائج المباحثات على أمل الوصول لمنطقة وسطى، ما هي هذه المنطقة في العقل السعودي، في لبنان مثلاً، أن يتنازل حزب الله عن سلاحه، مقابل القبول السعودي به كحزبٍ مدني، يحق له التمثيل الانتخابي، في اليمن مثلاً، أن يتخلى الجيش واللجان وأنصار الله عن سلاحهم، وتسليم مفاتيح صنعاء لابن سلمان عن طريق الرئيس الفار، مقابل القبول السعودي بوزير أو اثنين للحوثيين في الحكومة، على سبيل عدالة التمثيل، وعلى سبيل التنازل السعودي والوصول لمنطقةٍ وسطى.
وقياساً على ذلك في كل الساحات، التي تسميها السعودية ساحات نفوذ إيراني، من سوريا إلى العراق وفلسطين، لذا لا نستطيع النظر إلى هذه المباحثات، بعيداً عن الاسترقاق الأمريكي لآل سعود، كما لا نستطيع النظر لزيارة وزير الخارجية الإيرانية إلى بيروت، باعتبارها استهدافاً للسعودية، التي أصبح البعض يربط عروبة لبنان، بالرضوخ لرغباتها السعودية، صبيانية المنبع أو تبعية الخلفية.
إنّ زيارة وزير الخارجية الإيرانية إلى بيروت، وبعيداً عن شقها البروتوكولي، تمثل إحدى أوراق القوة اللبنانية في مواجهة الحصار، إنّها تمنح لبنان خيار التعافي وتحقيق سبل الخروج من كل أزماته، دون الاضطرار إلى تقديم تنازلاتٍ موجعة، على صعيد سيادته أو ثروته أو مبادئه وتاريخه، ومن الحنكة السياسية أن يتم استغلالها في مواجهة الحصار الأمريكي، لا أن يتم التضحية بها في سبيل أوهام ما يسمى بالاحتضان العربي، والذي في حقيقته رهن لمستقبل لبنان ومصير اللبنانيين، لحساباتٍ شخصية وفي أفضل حالاتها فئوية.