قمّة بوتين ــ إردوغان: الأسرار المُعلَنة
محمد نور الدين
انعقدت القمّة المرتقبة بين الرئيسَين التركي رجب طيب إردوغان، والروسي فلاديمير بوتين، في سوتشي أوّل من أمس، وكأنها لم تنعقد. إذ إن كلّ ما فيها عاكس مسارات القمم المعتادة؛ فلا بيان مشتركاً صدر عنها، ولا مؤتمر صحافياً انعقد بعدها، ليَظهر وكأن المواقف التي أطلقها الزعيمان قبل دخولهما قاعة اللقاء، كانت بمثابة إعلان مسبق عمّا سيجري داخلها. كذلك، غاب عن القمّة، التي استمرّت قرابة ساعتَين و45 دقيقة واعتبرها البعض (الكاتب في «حريت» التركية سادات أرغين) إحدى أكثر القمم صعوبة، أيّ حضور إضافي من كلا الطرفين، لتبقى أسرارها ملك الرئيسَين حصراً. وبعيداً عمّا يمكن أن يكون اتفاقيات سرّية، فإن القمة انتهت، في شقّها المعلَن، إلى بقاء الرجلين على مواقفهما، وإدامة المراوحة على حالها، في انتظار مقبل الأيام. وما كان ينتظره المتابعون، من مواقف لإردوغان على متن طائرة العودة إلى أنقرة وفق ما جرت عليه عادته، لم يشفِ غليل أحد؛ إذ باستثناء اقتراحه على بوتين التعاون في مجال الفضاء وإطلاق صاروخ فضائي مشترك، فهو بقي في العموميات في كلّ القضايا التي تحدّث عنها.
وكان سبقَ القمّةَ توجّهُ إردوغان إلى نيويورك، حيث ألقى خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مُعرّفاً بكتابه الجديد في جادة ماديسون سكوير. وإذ كان يأمل أن يلتقي، على هامش ذلك، الرئيس الأميركي، جو بايدن، فإن الأخير رفض، وفقاً لبعض الأنباء، لقاءه، ما اعتُبر إشارة إلى تجدّد الفتور بين الحليفَين الأطلسيَّين، بعدما تأكّد أن مهمّة حماية مطار كابول ستؤول إلى قطر بمفردها. هكذا ذهب إردوغان الذي اعترف بأن العلاقات مع بايدن لم تبدأ على خير بخلاف العلاقات مع جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب، إلى القمّة مع بوتين خالي الوفاض من موقف أميركي إيجابي، وهو ما زاد موقفه ضعفاً أمام الرئيس الروسي. ولذا، حوّل الرئيس التركي وُجهة طلب الرضى إلى موسكو، معلِناً قبل القمّة أن مسألة صواريخ «أس 400» انتهت ولا تراجع عنها، وأنه يمكن شراء دفعة ثانية منها من روسيا، في ما بدا ردّ فعل على الضغوط الأميركية التي أدت إلى تدهور سعر صرف الليرة (لامس سعر الدولار أخيراً عتبة تسع ليرات)، وإيذاناً بانتهاء مسار اتّبعه إردوغان عنوانه مهادنة الرئيس الأميركي الجديد علّه بذلك يتخفّف من الضغوط المسلّطة على بلاده.
لا يزال الرئيس التركي يمارس سياسة «اللعب على الحبلين» واستغلال التناقضات في المواقف الإقليمية والدولية
مع ذلك، فإن الرئيس التركي لا يزال، منذ محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة ضدّه عام 2016 وتعميق انفتاحه على روسيا، يمارس سياسة «اللعب على الحبلين» واستغلال التناقضات في المواقف الإقليمية والدولية. فهو ذهب إلى القمّة مع بوتين بعد سلسلة مواقف وخطوات استفزازية لموسكو، من خلال التأكيد على عدم الاعتراف بضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أوكرانيا بل وبيعها طائرات مسيّرة متطوّرة من طراز «TB-2» أثارت غضباً روسياً، إضافة إلى كون تركيا شكّلت جزءاً أساسياً من مناورة واسعة لـ«حلف شمال الأطلسي» أمام السواحل الأوكرانية في البحر الأسود الذي تعتبره روسيا بحراً مقفلاً على التحرّكات الأطلسية المعادية. في المقابل، لفتت الصحافة التركية إلى أن من أهمّ بنود المحادثات، العمل على توقيع اتفاقية جديدة لشراء تركيا الغاز من روسيا، تسدّ حاجة الأولى المتزايدة إليه، والتي تُقدَّر مع نهاية العام بـ60 مليار متر مكعّب، بعدما كانت بحدود 45 مليار متر مكعّب. وهذا من شأنه، بلا شكّ، أن يُفرح روسيا وشركة الغاز العملاقة «غازبروم»، مع بقاء سعر المتر معلّقاً، فيما يأمل إردوغان أن يحصل عليه بأسعار أرخص من السوق. كذلك، ذكّر الرئيس التركي نظيره الروسي، بوضع مفاعل «أق قويو» النووي قرب مرسين، حيث شارف العمل فيه على الانتهاء (مع الاستعداد لبناء مفاعلَين آخرَين من جانب روسيا)، وبأن 13 ألف عامل يعملون في المفاعل بينهم عشرة آلاف تركي وثلاثة آلاف روسي. أيضاً، تمثّل العلاقات الثنائية وتدفّق السياح الروس إلى تركيا وتصدير المنتجات الزراعية التركية إلى روسيا موضوعات حيوية بالنسبة إلى البلدين، كما مضاعفة الاستثمار، حيث تحدّث الزعيمان عن استثمارات تركية في روسيا بقيمة مليار ونصف مليار دولار مقابل استثمارات روسية في تركيا بقيمة ستة مليارات ونصف مليار دولار، ووعود برفع حجم التجارة البينية.
من جهة أخرى، احتلّ الوضع في محافظة إدلب حيّزاً بارزاً في المحادثات التي استبقها إردوغان بربط الوضع في سوريا عموماً بالعلاقات التركية – الروسية، في ما بدا محاولة لإدخاله في بازار السياسات الإقليمية، والتقليل من شأن موقف دمشق، ورغبتها الجامحة والمحقّة في استعادة إدلب من المسلحين، وانسحاب الجيش التركي منها. ولا شكّ في أن سوريا وروسيا عملتا على تسخين مقدّمات القمة بتحريك الوضع في إدلب. وفي هذا الإطار، يعتبر الخبير التركي سرهاد إركمين أن علامات التفجير تبدو في الأفق، لافتاً إلى أن الجيش السوري والروس نفذوا خلال أقلّ من ثلاثة أشهر 444 هجوماً على الجيش التركي والمسلّحين في إدلب، نصفها في شهر أيلول فقط. ويبدو أن ما هو متاح حالياً تطبيق «اتفاقية 5 آذار» بين تركيا وروسيا المتعلّقة بسحْب المسلحين، وفتح طريق «M4» الواصلة إلى اللاذقية، وتأمين محيطه وصولاً إلى جبل الزاوية وجبل الأربعين. وهذا كان من مسؤولية أنقرة، لكن الأخيرة تنصّلت منه. ولذا، يعتقد إركمين أن روسيا قد تعرض أن تُشرف هي وحدها على الطريق المذكور وإلا فإن «الحرب واقعة لا محالة».
وإذ يشير إلى أن هناك حوالى 15 ألف جندي تركي في المنطقة، فهو يرى أن إردوغان سوف يسعى خلال لقاءاته مع بوتين إلى أن تُحلّ الأمور بطريقة سلمية لسبب آخر، وهو أن أيّ معركة ستنشب ستعني تقدّم الجيش السوري إلى الشمال من «M4»، وبالتالي موجات هجرة جديدة إلى الداخل التركي قد لا تقلّ عن مليون لاجئ إضافي. ولذا، فإن إردوغان سيحاول إقناع بوتين بتطبيق «اتفاقية 5 آذار» ولو جزئياً، حتى لا تَنجرّ تركيا إلى معركة لا تريدها (وهو ما أشار إليه في حديثه في الطائرة)، لكنه في الوقت نفسه يريد المساومة على أمور لم يتضمّنها الاتفاق المشار إليه، مِن مِثل أن تضغط روسيا على «حزب العمال الكردستاني» ليسحب عناصره من منبج وتل رفعت، وأن تتولّى موسكو الإشراف على الوضع هناك. أمّا الجانب الروسي فهو أيضاً حريص على عدم تهشيم صديقه التركي، ومواصلة إضعاف روابطه الأطلسية، بل مساعدته على كسب معركة الرئاسة، كونه شرّع أمام الروس الأبواب التركية. وبالتالي، فإن إردوغان لن يُقدِم على تقديم تنازلات في إدلب إلّا بشقّ النفس، وفي حال الاضطرار الأقصى، خصوصاً أنه لا يزال يتمترس بعدم الاعتراف الدولي بشرعية الرئيس السوري، ويريد تقطيع الوقت من الآن إلى موعد الانتخابات الرئاسية عام 2023، التي على أساسها يبني كلّ مواقفه السياسية. وإلّا، فإن الباب سيكون مفتوحاً أمام عملية عسكرية سورية واسعة.