إيران تحوّلت إلى قُوّةٍ إقليميّةٍ عُظمى وتأقلمت مع العُقوبات
عبدالباري عطوان
يبدو أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة بدَت شِبه يائسة من عودة إيران إلى المُحادثات النوويّة في فيينا، وبدأت في مُمارسة ضُغوط عليها سواءً عبر وكالة الطّاقة الذريّة، أو عبر تهديداتٍ إسرائيليّة بشنّ عُدوانٍ لتدمير برامجها النوويّة، بحُجّة تجاوز هذه البرامج كُلّ الخُطوط الحُمر.
ان أمريكا لوّحت مُجَدَّدًا اليوم بفرض عُقوبات “دبلوماسيّة” على إيران إذا لم تسمح للمُفتّشين الدوليين بدُخول ومُراقبة مُنشآة لتصنيع أجهزة الطّرد المركزي في مدينة كرج غرب طِهران، وردّ السيّد كاظم غريب أبادي مندوب إيران في الوكالة الدوليّة بأنّ التّفاهمات المُتعلّقة بهذه المُنشأة لا تشملها على وجه التّحديد، وأنّ بلاده لن تُسَلِّم أشرطة التّسجيل الأُمميّة داخِل هذه المُنشأة إلا بعد رفع كامل العُقوبات، وإدانة الوكالة للهجَمات الإسرائيليّة الإرهابيّة التي استهدفتها.
ربّما يُجادِل البعض مُحِقًّا، بأنّ التّهديدات الإسرائيليّة لتدمير المُنشآت النوويّة الإيرانيّة ليست جديدة، وبدأت قبل عشر سنوات، إن لم يكن أكثر، ولكن من تابع كلمة نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة يلمس أنّ هُناك حالة قلق وإحباط إسرائيليّة غير مسبوقة، جعلت من “نغمة” هذه التّهديدات مُختلفةً هذه المرّة.
بينيت الذي خاطب الجمعيّة العامّة لأوّل مرّة، سيرًا على نهج سلفه بنيامين نِتنياهو، ولكن دُون أن يعرض صُوَرًا وبيانات توضيحيّة، حول مدى تقدّم هذه البرامج النوويّة، حتى أنّه، وعلى عكس كُلّ الخِطابات السّابقة، لم يتطرّق مُطلقًا لقضيُة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، وأظهر هوسًا وتَأزُّمًا تُجاه إيران، وبرامجها النوويّة، التي وصلت لحظةً فاصلةً، وقفزات كبيرة إلى الأمام، في مجال البحث والتّخصيب النووي، وبناء مُنشآت نوويّة سريّة في توركوز آباد وماريغان حدّ زعمه، ودعم حركات مُسلّحة تُحيط بإسرائيل، وهاجَم بشَراسةٍ الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي.
فازت ايران في حرب السّفن، وكسَرت الحِصار الأمريكي على حُلفائها في سورية، ولبنان واليمن (تحقيق التفوّق العسكري في مُواجهة العُدوان السعودي)، وقِطاع غزّة (الرّدع الصّاروخي)
حالة الهذيان الإسرائيليّة المُتفاقمة هذه الأيّام تعود إلى حُدوث تطوّرين أساسيين:
الأوّل: تبلور قناعة لدى الأمريكان والإسرائيليين، مدعومةً بتقاريرٍ أمنيّة غربيّة سريّة، تُفيد بأنّ إيران أصبحت “دولة الحافّة” نَوويًّا، أيّ أنها باتت تملك القُدرات التكنولوجيّة، واليورانيوم المُخصّب لإنتاج رؤوس نوويّة، وإمكانيّة تحميلها على صواريخ باليستيّة بعيدة المدى تصل إلى العُمُق الفِلسطيني المُحتَل.
الثاني: عدم اكتِراث الحُكومة الإيرانيّة الجديدة برئاسة السيّد إبراهيم رئيسي “الثوريّة” بالعودة إلى مُفاوضات فيينا النوويّة، فقد أبعدت عباس عراقجي المُفاوض السّابق في حُكومة روحاني من منصبه، وأعفته من جميع مهامه، ولم تُعيّن حتّى الآن خلفًا له، بينما قال حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجيّة الإيراني الجديد، إنّ بلاده ليست في عجلةٍ من أمْرِهَا للعودة إلى مُفاوضات فيينا وتحتاج ثلاثة أشهر على الأقل لتكون جاهِزةً لهذه المَهمّة.
القلق الإسرائيلي ربّما يعود إلى تصريحات أنتوني بلينكن، وزير الخارجيّة الأمريكي، الذي قال بعد تولّيه مهام منصبه قبل تسعة أشهر الأمر الذي يُحَتِّم العودة إلى مُفاوضات حول اتّفاق نووي انسحبت مِنه بلاده عام 2015، الآن مرّت تسعة أشهر دُونَ أن تنجح أمريكا من خِلال المُفاوضات والاستِعداد لتقديم تنازلات كبيرة من بينها رفع مُعظم العُقوبات، ممّا يُؤكّد الفرضيّة التي تقول بأنّ السيّد علي الخامنئي قائد الثورة الاسلامية المُشرِف شخصيًّا على المِلف النووي كان يتبنّى سياسة كسب الوقت، انتِظارًا للانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة، للإطاحة بحُكومة روحاني “الإصلاحيّة” والإتيان بحُكومة رئيسي “الثوريّة”، والعودة إلى المُربّع الأوّل، أيّ ما قبل توقيع الاتّفاق النووي، وهذا ما يَحصُل حتّى الآن.
إسرائيل تجني نتائج سياساتها الاستراتيجيّة “الغبيّة” في مُواجهة مُؤسّسة إيرانيّة تتّسم بالدّهاء، فقد “تشابهت عليها “أيّ إسرائيل” البقر”، واعتقدت أنّ الإيرانيين على دَرجةٍ كبيرةٍ من السّذاجة مِثل بعض الحُكّام العرب يُمكِن إرهابهم بالتّهديدات العسكريّة، وخِداعهم بأُكذوبَة التفوّق العسكري والأمني، وإجبارهم على توقيع اتّفاقات “استِسلام أبراهام” التطبيعيّة.
التهديدات الإسرائيليّة لن تُرهِب إيران، بل ستُعطِي نتائج عكسيّة تمامًا، فإيران تحوّلت إلى قُوّةٍ إقليميّةٍ عُظمى و”شِبه” نوويّة، تأقلمت مع العُقوبات، ووظّفتها لتطوير قُدرات ذاتيّة عسكريّة مُتَطَوِّرة جدًّا، وأسّست منظومة الأذرع العسكريّة و”الثوريّة” الضّاربة التي حوّطت إسرائيل
ما يُؤكِّد ما نقوله إنّ نتنياهو هو الذي أوعز للرئيس الأمريكي السّابق بالخُروج من الاتّفاق النووي مُستَخْدِمًا تلميذه “غير النّجيب” جاريد كوشنر للقِيام بهذه المَهمّة، ولم يَدرِ أنّه كان يُقَدِّم “خدمة كبيرة” لإيران، وللقائد الثورة الاسلامية للخُروج من هذا الاتّفاق بأقلّ قَدرٍ مُمكن من الخسائر، وبِما يُؤدِّي إلى رفع مُعدّلات التّخصيب، وتطوير القُدرات النوويّة الإيرانيّة، وإعطائها الوقت اللّازم في هذا المِضمار.
التهديدات الإسرائيليّة لن تُرهِب إيران، بل ستُعطِي نتائج عكسيّة تمامًا، فإيران تحوّلت إلى قُوّةٍ إقليميّةٍ عُظمى و”شِبه” نوويّة، تأقلمت مع العُقوبات، ووظّفتها لتطوير قُدرات ذاتيّة عسكريّة مُتَطَوِّرة جدًّا، وأسّست منظومة الأذرع العسكريّة و”الثوريّة” الضّاربة التي حوّطت إسرائيل من الجِهات الثّلاث، وقريبًا إضافةً الجهة الرّابعة (البحر)، وفازت في حرب السّفن، وكسَرت الحِصار الأمريكي على حُلفائها في سورية (قيصر)، ولبنان (المازوت)، واليمن (تحقيق التفوّق العسكري في مُواجهة العُدوان السعودي)، وقِطاع غزّة (الرّدع الصّاروخي).
لم نَلتقِ السيّدين قائد الثورة السيد علي الخامنئي والرئيس الايراني السيد ابراهيم رئيسي، ولكن ما نستطيع استِشرافه عن بُعد، أنّ ابتسامة عريضة ارتسمت على مُحيّاهما وهُما يُتابعان تهديدات بينيت لإيران من فوق منبر الأمم المتحدة، وإن كُنّا نَشُكْ بأنّهما يملكان الوقت، وربّما الرّغبة في هذه المُتابعة، ليس لتكرّرها، وإنّما أيضًا لأنّها فارغة من أيّ قيمة.. وكلامٌ في الهواء.. واللُه أعلم.