روسيا و»طالبان» حذر وترقب وانهيار
سماهر الخطيب
أنهت الولايات المتحدة الأميركية عشرون عاماً من احتلالها لأفغانستان مع انتفاء سبب وجودها من أساسه، فهي التي أوجدت أسباباً لا أساس لها من الصحة لتجتاح العالم بشرقه وغربه دونما رقيب أو حسيب والحجة وأد الإرهاب في أرضه. لكن ما أرادت وأده وبعد سنوات تفشى في أصقاع العالم كالنار في الهشيم، بدءاً من تنظيم “القاعدة” الإرهابي وصولاً إلى تنظيم “داعش” الإرهابي وتوابعهما من أفكار متطرفة.
لم يعد خافياً على أحد وفق ما سُرب من وثائق خاصة بالبيت الأبيض وسياساته ووفق تصريحات مسؤولي ذاك البيت “الأسود”، أن موجد ذاك الفكر المتطرف هي ذاتها من تصدرت المنابر والمحافل داعية لمحاربته، كمن يقتل القتيل ويسير في جنازته متناسية أعداد النعوش الملتفة بالنجوم الأميركية طالما أنّ هدفها الأسمى هو السيطرة على موارد ومكامن الشعوب في أصقاع العالم، ولا ضير إذا كانت الجثامين مكدسة فداءً لغطرستها المعنونة بالديمقراطية والمبادئ الإنسانية، فهي ذات رسالة إنسانية كما تدعي وتريد أن يحل السلام حيثما تحل بزعمها، ولكنها باتت كما البوم حيثما تحل يحل الخراب وأينما تكون يكون السواد وإذا ما رحلت فهو حسن الثواب.
نعم هذه هي السياسات الأميركية وهذه توجهاتها وهذا فحوى تصريحاتها، ومع إعلانها الانسحاب النهائي من أفغانستان ليس هو إعلان انسحاب بقدر ما هو عودة على بدء وإعادة تموضع جديد يتناسب مع طبيعة الحال التي بات عليها النظام العالمي والمعنونة بالفوضى، إذ لم ينتقل بعد نحو التعددية القطبية ولا هو أحادي القطبية كما كان طيلة عقود مضت، وكذلك المجتمع الدولي تحكمه الفوضى بعد أن طال التطرف الفكري معظم أصقاعه، وبعد أن تطورت التكنولوجيا ودخلت العولمة مرحلة جديدة من التطور والترابط والتأثر والتأثير بالفضاء السيبراني.
وكل ذلك أدى لمزيد من الصدامات المجتمعية داخل حدود المجتمع الأصغر المتمثل بالدولة الواحدة لينعكس سلباً على المجتمع الأكبر المتمثل بالمجتمع الدولي أو المنظومة الدولية العالمية، وهذا طبعاً ما أوجدته السياسات الليبرالية المتوحشة القائمة على الفردية والرأسمالية الأنانية، ما جعل شركات ربحية تحكم العالم بمقياس الربح والخسارة الشركاتي الخاص ما يعني أن أفراداً تمتلك تلك الشركات هي من يحكم ويتحكم بموارد الشعوب، فبات قانون الشركات المتوحش القائم على مبدأ شريعة الغاب هو السائد مع سقوط مبادئ التشاركية والمبادئ الدولية.
في هذه الأثناء صعدت دول من بين الهشيم الذي أشعلته الولايات المتحدة بحروبها وأفكارها الليبرالية المتوحشة، صعدت دول عملت بهدوء، نهضت من تحت الركام وباتت اليوم صاحبة صوت مسموع لدى من يريد الإصغاء، بل وباتت مؤثرة بالقرار الدولي وأكثر، باتت تهدد الوجود الأميركي على رأس الهرم العالمي كحاكم للعالم، فكانت الصين القوة الاقتصادية العملاقة المهددة للوجود الأميركي والتي يبدو أنها منغمسة تماماً في العولمة، ولاعب ماهر للغاية له أجندته الخاصة وليس محيط آسيوي خاضع للسيطرة الخارجية للغرب كما قد يبدو في التسعينيات.
وروسيا القوة الدبلوماسية المهددة للعرش الأميركي بعد أن عززت سيادتها بدرجة كبيرة على الساحة العالمية، بحيث تعاملت مع التهديدات الداخلية للانفصال وزعزعة الاستقرار وعادت كقوة مستقلة إلى الساحة العالمية.
وإيران القوة الإقليمية النووية المهددة للمصالح الأميركية، كذلك، اقتراب إيران وتركيا من موسكو في العديد من القضايا وإقامة شراكة وثيقة بين باكستان والصين بحيث لم يعد أي منهم مهتم بالوجود الأميركي – لا في الشرق الأوسط، ولا في آسيا الوسطى.
ما دفع إدارة البيت “الأسود” إلى إعادة ضبط الساعة بالعودة خطوة نحو الوراء عسكرياً بإعلان انسحابها من أفغانستان، وبالتالي من العراق ومن ثم سورية بعد انسحابها سياسياً من معظم الاتفاقيات والمعاهدات الدولية سواء الثنائية أو الجماعية، في محاولة منها إلى إعادة التموضع سياسياً وعسكرياً في عالم باتت ملامحه واضحة، وقبل أن تتكشف الرؤية عن صورته بوضوح ليس من المستبعد أن تستثمر في الفوضى، فهي سيّد من قال بالفوضى واستثماراتها وضرب النقيض بالنقيض طالما الفوائد تعود بالريع المتعاظم والمكدس لديها، فهذا فحوى السياسة الخارجية الأميركية التي هي دائماً في خدمة سياستها الداخلية إنما حتى الداخل اليوم متأجج ضدّ إدارتها، وطفت على السطح مشاكلها الداخلية التي أنهكت واضعي تلك السياسات، وما الانسحاب الأميركي من أفغانستان على سبيل المثال إلا محاولة لإسكات بعض الأصوات في الداخل، الذي لم يعد تنطلي عليه فكرة أن الولايات المتحدة راعية السلام العالمي بعد أن اجتاحت داخلها العنصرية والتطرف والبطالة وغيرها.
ويبدو جلياً وواضحاً الحذر الروسي من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وضبابية الموقف الروسي لم تنقشع وفق تصريحات المسؤوليين الروس، وكذلك الحذر الروسي من حركة “طالبان” التي لا تزال محظورة في روسيا، فالروسي تعلم من دروسه السابقة الحذر في التعاطي مع أي موقف للأميركي يد فيه بعد تجربة ليبيا وأفغانستان وغيرها.
وعلى رغم أن أفغانستان بلد حبيس ولا يحد روسيا بأي من جهاته لكنه يحد دول رخوة في الخاصرة الروسية، بالتالي أي تواجد للإرهاب والتطرف وأي زعزعة في هذا البلد سينتقل إلى روسيا حكماً عبر الدول المحاذية لها وله، التي تشكل همزة الوصل بينهما، وهو ما تخشاه روسيا حفاظاً على أمنها القومي قبل كل شيء، وعلى رغم الوعود التي أطلقها قادة طالبان بحسن الجوار إلا أنها حذرة في تلقفها، فالفعل شيء والقول شيء آخر .
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الحذر الروسي هو من الانسحاب الأميركي نفسه الذي ربما انسحب ليترك الساحة لإرهابيي “داعش”، الذي أعلن البنتاغون عن وجودهم في تلك الأراضي التي انسحب منها أو ترك أسلحته الدقيقة والمتطورة لدى “طالبان” لإعادة استخدامها ضدّ “أعداء” أميركا. وتفجيرات مطار كابول وإعلان مسؤولية “داعش خرسان” مؤشر واضح للمرحلة الانتقالية الجارية في أفغانستان والذي تلقفته روسيا بتوجس، لكون الساحة الأفغانية ستشهد توترات وحروب واشتباكات بين الفصائل المسلحة هناك وبين القوى الإقليمية الفاعلة فيها لأهمية موقعها الجيوبوليتكي.
بالتالي ربما ترك الأميركي مستنقعاً جديداً في محاولة منه لإغراق روسيا فيه، وكذلك الصين وإيران كدول محاذية لأفغانستان، ومحاولة منه للاستثمار في جغرافية هذا البلد كهدف جيوسياسي يخدم استراتيجيته ورؤيته في كبح الجموح الصيني والإيراني والروسي عبر هذه البؤرة المشتعلة وتركها لمصيرها مع إرهابيي “داعش”، هذا إذا سلمنا جدلاً بتغير أفكار حركة “طالبان” بحسب تصريحات قادتها.
فيما لا يبدو أن الروسي يريد ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة عسكرياً، إنما مسعى روسيا وهدفها الأساس يتمحور في محاربة الإرهاب حفاظاً على أمنها القومي وإقامة علاقات دبلوماسية تقي روسيا من وصول النزعات المتطرفة لأراضيها، وهو ما يجعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حذر في ما يخص طالبان، على عكس ما حدث في الأزمة السورية مثلاً، فطالبان مصنفة بالفعل منظمة إرهابية في روسيا، لكن الرغبة الروسية في إيجاد قدر من الاستقرار في المنطقة، هي المحدد الأساس في توجهاتها الخارجية.
بالتالي جل ما تريده روسيا هو منع انتقال حالة عدم الاستقرار في أفغانستان إلى منطقة آسيا الوسطى، وهي جزء من الاتحاد السوفياتي السابق وما تعتبره ساحة خلفية خاصة بها، وألا تصبح أفغانستان نقطة انطلاق للجماعات المتشددة الأخرى. ومتتبع محددات السياسة الخارجية الروسية الجغرافية منها والإقليمية يعي جيداً أهمية هذا البلد بالنسبة لروسيا، وكذلك أهمية الحفاظ عليه آمناً ينعكس على الداخل الروسي.
وفي مستقبل “طالبان” فعلى رغم أن العلاقات التاريخية بين طالبان وروسيا شابتها الكثير من القلاقل والنزاعات، وقاومت الحركة غزواً سوفياتياً استمر نحو 10 سنوات، إلا أن هذه العلاقات تطورت في السنوات الأخيرة، وأقام الجانبان “حواراً” ورعت موسكو “محادثات سلام”، وفق آنا بورشفسكايا، المحللة المختصة بالشأن الروسي في “معهد واشنطن”. أضف إلى ذلك تصريحات الحركة الأخيرة التي شكرت فيها روسيا لمواقفها الدولية، كما أشارت إلى إيلاء حركة (طالبان) الأهمية للعلاقات مع روسيا، وقالت “طالبان” إنّ “روسيا من الدول التي لها مواقف ولا بد من أن تشكر عليها، وهي جارة لأفغانستان، وإن كانت بعيدة، ولها دور في القضايا الدّوليّة”.
بالتالي تتراوح وجهة النظر الروسية ما بين احتمالين، الأول يتلخص باحتمال نجاح “طالبان” في مسك زمام الأمور والتحول إلى دولة في حاضنة باكستان وإيران والصين حلفاء روسيا، بالتالي عدم تحوّلها مرةً أخرى لساحة اشتباك برغبة أميركية لإعادة توطين فصائل الإرهاب العالمية لاستهداف الدول آنفة الذكر.
أما الاحتمال الثاني، فيرجّح أن يكون الانسحاب الأميركي منسقاً مع “طالبان” بقصد تخفيف العبء عن أميركا وحلفائها، واستخدامها لإرهاق “الصين وروسيا وإيران”، وهو ما يجعل الموقف الروسي شديد الضبابية بتوجسه من أن يكون الأميركي الفاقد الثقة عبر باع طويلة من التجارب أن يقوم هذه المرة بتشغيلَ “طالبان” و”داعش خرسان” لتنفيذ أجندته الخاصة بتفاهمات عميقة مع “طالبان”، بالتالي مستنقع جديد لإعادة تدوير تلك الأفكار المتطرفة، والأيام والمواقف وحدها من سيبدد ضبابية المشهد هناك.
في المحصلة تبدو أحداث أفغانستان نقطة تحوّل في الظام العالمي، فكما كان انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان في عام 1989، يعني نهاية العالم ثنائي القطبية، يبدو أن الانسحاب الأميركي اليوم من هذه البؤرة المشتعلة يعني نهاية العالم أحادي القطبية، باعتبار أنّ هذه المنطقة ذات أهمية جيوسياسية تؤثر في رسم الأحداث ومعالم الأنظمة العالمية، وهذا يعتمد على ردود الفعل التي ستأتي لرسم ملامح العالم الجديد.