ماذا وراء الصفعة الأميركية للفرنسيين؟
شارل أبي نادر
هل تربح واشنطن نقاطاً استراتيجية في الشرق لتخسر مثلها وأكثر في الشمال، وتحديداً بين شرقي أوروبا وغربي روسيا؟
"إنها طعنة حقيقية في الظَّهر وخيانة للثقة"؛ هكذا، وبكل صراحة، وصف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قرار الحكومة الأسترالية بشأن التراجع عن عقد غواصات مع شركة تصنيع فرنسية، في حديث إلى محطة "فرانس إنفو" الإذاعية الفرنسية، وذلك بعد أن كشفت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عن تعاون جديد لتزويد الأخيرة بغواصات تعمل بالطاقة النووية، بحيث كان فعلاً هناك عقد بين فرنسا والحكومة الأسترالية، قيمته أكثر من 56 مليار دولار أسترالي (43 مليار دولار أميركي)، لمصلحة غواصات تعمل بالديزل مع شركة تصنيع الغواصات الفرنسية.
الأمر الآخر، والذي لا يقلّ أهمية وحساسية عن إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، هو الاتفاق الأمني الجديد، والذي أعلنته الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ومحوره منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويشمل مساعدة أستراليا على الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، والذي علّقت عليه الصين، بحسب ما ذكرت "رويترز"، بالقول إنه يتعيّن على الدول "التخلُّص من عقلية الحرب الباردة والتحيُّز الأيديولوجي".
في الواقع، لا يمكن اعتبار الصفعة التي تلقّاها الفرنسيون نِتاجَ قرار ذاتي لأستراليا، فالأخيرة تفاوضت مع باريس بشأن الملف فترةً تجاوزت خمس سنوات، وتم خلالها دراسة كل معطيات الصفقة، في مختلف جوانبها التِّقْنية والمالية والسياسية. لكنّ دخول الطرف الأميركي على الخط كان حاسماً في "خربطة" الاتفاق، استناداً إلى عاملين أساسيين:
أولاً: العامل المالي، بحيث يعطي الأميركيون الجانبَ التجاري في الصفقات مع الدول، حيّزاً واسعاً من التركيز. وأغلبية مناوراتهم عبر العالم، تحمل في خلفيتها عاملاً مالياً يقوم على بيع الأسلحة والقدرات والتجهيزات العسكرية. وتزويدهم أستراليا بغواصات تعمل على الطاقة النووية، سيكون له مردود مالي ضخم.
ثانياً، وهو الأهم بين العاملَين: العامل الاستراتيجي، وهو المرتبط بصورة مباشرة بالصراع الحاليّ مع الصين، بحيث يمكن لأستراليا، من خلال موقعها الحيوي الاستراتيجي، والرابط بين المحيطين الهندي والهادئ، أن تؤدّي دوراً مؤثّراً في المواجهة الصينية - الأميركية، وأن تمتلك، نتيجةَ ذلك، الولايات المتحدة الأميركية في تلك البقعة الاستراتيجية، مباشَرة أو عبر حليفتها أستراليا، أكثرَ من غواصة نووية. فهذا الأمر يعطي الأميركيين نقاطاً متقدمة جداً، في البُعدين العسكري والاستراتيجي، على مستوى الصراع مع الصين.
البُعد الآخر، الذي دفع الأميركيين نحو هذا المسار، غير العادل بالنسبة إلى الفرنسيين (الاتفاق مع أستراليا وبريطانيا و"خربطة" صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا)، لا شكّ في أنه مرتبط بحاجة واشنطن إلى خلق جبهة متقدّمة في مواجهة تحالف استراتيجي حسّاس بدأ يكتمل في مواجهتها، وهو تحالف (روسيا – الصين – إيران). فكانت الفكرة الأميركية نشرَ غواصات نووية في مياه أستراليا الشمالية والغربية، أي على امتداد المحيط الهندي من الجهة الشرقية، والمحيط الهادئ من الجهة الجنوبية.
هذا في الجانب المتعلِّق بحاجة واشنطن إلى تثبيت نقطة ارتكاز استراتيجية في الشرق، وتحديداً في جنوبي المحيط الهادئ وشرقي المحيط الهندي. لكن، ماذا عن الموقف الفرنسي، الذي اعتبر أنه تلقّى طعنة في الظَّهر، ويقصد طبعاً من الجانب الأميركي، بصورة محدَّدة؟ وهل من تأثيرات أو تداعيات للملف على تماسك حلف "الناتو"، والتي تشكّل فرنسا طرفاً أساسياً فيه، بسبب ما يشكّله "الناتو" من جبهة رئيسية للأميركيين في مواجهة روسيا؟ وهل تربح واشنطن نقاطاً استراتيجية في الشرق لتخسر مثلها وأكثر في الشمال، وتحديداً بين شرقي أوروبا وغربي روسيا؟
في متابعة للمواقف الفرنسية مؤخَّراً، والمتعلقة بمهمة حلف شمال الأطلسي ودوره وتموضعاته، في مواجهة روسيا، أو المتعلّقة بالخلافات السياسية والاقتصادية مع بريطانيا، والتي ساهمت، طبعاً مع أسباب بريطانية داخلية أخرى، في انسحاب الأخيرة من الاتحاد الأوروبي، يمكن تلمُّس أكثر من نقطة خلافية بين الفرنسيين والأميركيين، أهمها الموقف الفرنسي الذي عبّر عنه الرئيس ماكرون، مستهدفاً حينها الرئيس الأميركي السابق ترامب، بقوله إن على أوروبا البحث في تشكيل منظومة دفاعية أوروبية مستقلة عن الأميركيين، وتكون قادرة على حماية الأمن القومي الأوروبي بمعزل عن مساعدة الأميركيين. وكان يقصد طبعاً، من دون أن يجاهر في ذلك، فكَّ الارتباط رويداً رويداً عن الأميركيين، عسكرياً واستراتيجياً.
طبعاً، هذا الموقف الفرنسي الحسّاس، لم ترضَ عنه أميركا، وهو يشكّل - فيما لو حدث – استهدافاً غير بسيط للسياسة الأميركية، التي قامت على رعاية القارة العجوز وإدارتها وتوجيهها واستغلالها، بعد الحرب العالمية الثانية، سياسياً واستراتيجياً واقتصادياً. والخلاف الأوروبي مع روسيا خلفيته الأساسية خدمة السياسة الأميركية، إذ إن للدول الأوروبية مصلحةً كبيرة في علاقة جيدة وممتازة بروسيا. وما حدث من ضغوط أميركية على ألمانيا من أجل إلغاء خط سيل الغاز الروسي، خير دليل على محاولة واشنطن الدائمة الهيمنةَ على مصالح الدول الأوروبية والتحكُّم في سياساتها. زد على ذلك، الضغوط التي تعرَّضت لها الدول الأوروبية من واشنطن، من أجل فك التزاماتها في الاتفاق النووي مع إيران، وما ينتج من ذلك من خسائر للدول الأوروبية.
من هنا، وأمام هذا الموقف الضاغط على فرنسا، التي لمست لَمْسَ اليد الدورَ الأميركي الأساسي في إلغاء صفقة القرن كما سمَّتها الأوساط العالمية، أي صفقة الغواصات مع أستراليا، وما نتج منها من خسائر مالية ومعنوية لباريس، فهل تتجرّأ الأخيرة على أن تتّخذ موقفاً صادماً، سيكون بالتأكيد لمصلحتها، عبر فكّ تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية التي خانتها، والتوجُّه شرقاً نحو الصين، وفتح صفحة جديدة من العلاقات التاريخية بين القطبين؟
في المقابل، هل تتلقّف بكين الأمر، وتقترب خطوات في اتجاه الفرنسيين، من خلال طرحها عليهم مشروعاً أو أكثر، يعوّض لباريس ما فاتها من خسائر جرّاءَ إلغاء الصفقة مع أستراليا، لتدشِّن الصين في ذلك مساراً جديداً في السياسة الدولية، وتفرض تغييراً جوهرياً ومفصلياً في التحالفات التقليدية عبر العالم؟