ما دلالة أولويّة الجوار في استراتيجية إيران؟
قاسم عز الدين
يشجّع الرئيس الأميركي جو بايدن وحلفاءَه الأوروبيين بعضَ الحكومات التابعة على التفاهم فيما بينها لتسويق إدارة الأزمات، لكنّ محور المقاومة، عبر "النظام الاقتصادي الجديد"، يشقّ طريق نموذج الحلول في منطقة متعطّشة إلى إزاحة الغمّة المميتة والنهوض.
إيران، التي وضعت موضع التنفيذ خروجَ أميركا من المنطقة في إثر اغتيال الشهيد قاسم سليماني، استبقت انبلاج التحوّلات التاريخية المفصلية عبر أفغانستان، لكنها ترسم، من خلال ذلك، استراتيجية محور المقاومة في إعادة بناء المنطقة بسواعد أهلها.
بايدن يقطع الشك باليقين بأن الفشل الأميركي ــ الأطلسي في أفغانستان هو نتيجة حتمية تفرضها نهاية حِقْبة الغزو العسكري (الحروب الكبرى كما سمّاها)، وهي العمود الفقري لفرض السيطرة الأميركية ــ الأطلسية، وتعزيز مصالحها في تبديد الثروات العالمية ونهبها.
هذا التحوّل التاريخي المفصلي يغيّر، على نحو جذري، مفاصل المنظومة الأميركية ــ الدولية في مجمل ركائزها الجيوسياسية، ولاسيما تراجع القوّة الأميركية عن قيادة "الحلفاء والشركاء"، الأمر الذي يؤدي، لا محالة، إلى أُفول المعسكر الغربي، ونموذجه القائم على تخريب دول الجنوب ومجتمعاته، على نحو خاص.
عالم الجنوب نحو نموذج بديل
إيران استبقت إقرار بايدن بنتائج انحدار أميركا وعجزها عن فرض سيطرتها عبر الغزو الحربي، بإعلان العمل على إخراج القوات الأميركية ــ الأطلسية من المنطقة مدخلاً لتفكيك التبعية السياسية، من أجل وقف انهيار المنطقة، والعمل مع أهلها على إعادة البناء.
في هذا الإطار، اتَّخذت إيران، في استراتيجية الجيل الثاني للثورة، أولويةَ الجوار في المنطقة العربية وآسيا الوسطى، كما عبّر وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في رؤيته الاستقرارَ الإقليمي وحلَّ الأزمات والعقبات في داخل المنطقة.
لكنّ هذه الأولوية، التي تدلّ على إشاحة نظر الاهتمام الذي يعوّل على الدول الغربية، تدلّ، في المقابل، على تعيين هوية إيران في انتمائها إلى عالم الجنوب، كما عبّر الرئيس إبراهيم رئيسي في رسالته إلى رئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا. وهو العالِم الذي يتطلّع إلى أفق إنساني في علاقات تضامنية أخوية، تُوْلي كلَّ المستضعَفين في الأرض اهتماماتِها، وضمنهم المستضعَفون في أميركا وأوروبا، بحسب نظرة الرئيس رئيسي في خطاب تنصيبه.
على هذا الأساس، تبني استراتيجيةُ إيران علاقاتِ التعاون المتبادَل مع الدول المناوئة للمعسكر الغربي، وفق ما كشف عبد اللهيان بشأن اتفاقيات مماثلة للاتفاقية الإيرانية ــ الصينية مع كل من روسيا والهند. فتتخذ من المنفعة المتكافئة، في ربع العقد المقبل، هدفاً يمكن تحقيقه.
ولا تقطع الأمل في احتمال إقامة علاقات ندّية وسويّة بأميركا والدول الأوروبية في مرحلة انحدارها، إذا تعلَّمت هذه الدول دروس فُقدانها القدرةَ على فرض إرادة الهيمنة عبر تغيير سلوك نرجسية العرق الأبيض.
محور قويّ صاعد في منطقة قابلة لوقف الانهيار
بايدن، الذي يضع نصب عينيه حتمية الانسحاب العسكري من سوريا والعراق والمنطقة، يعوّل على توظيف فئات اجتماعية محدودة لترويج الأيديولوجية الأميركية، عبر شعارات الحريات الفردية وحقوق الإنسان، والتي تبدو في تسويقها المكثّف حلولاً وهميّة لأزمات انهيار الدول وتفتيت المجتمعات.
وهي، في حقيقة الأمر، حصان طروادة لتلبية رغبات الأقلية القليلة وطموحاتها، من أجل تعزيز التبعية للنموذج الأميركي ــ الغربي، الذي أدّى إلى انفجار أزمات الانهيار.
لكن التعويل الأميركي ــ الغربي، في المقام الأوّل والأخير، هو على الحكومات والقوى الاقتصادية الفاسدة والمستفيدة من نموذج نهب الثروات العامة على حساب الأغلبية الساحقة من الفئات الاجتماعية المنتِجة والعاطلة من العمل، في الأرياف وأحزمة المدن، والتي هي عُرضة للبؤس والرمي.
في سياق هذه المتغيّرات والتحوّلات، تخطّ إيران استراتيجية محور المقاومة من أجل "محاربة الإرهاب الاقتصادي"، كما سمّاه عبد اللهيان، عبر التوجُّه إلى إرساء نموذج اقتصادي بديل عن نموذج تخريب المجتمعات وشرذمة الدول.
في سبيل هذا الطريق، عيّنت حكومة رئيسي محسن رضائي مير أميناً عاماً للتنسيق الاقتصادي بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بينما تتكفّل وزارة الخارجية تنسيقَ وجهة محور المقاومة في الجوار والجنوب والعالم نحو نموذج تفكيك التبعية والخروج من غابة التوحّش.
رضائي، الذي يعبّر عن توجُّه ثورة الجيل الثاني، يسعى منذ رئاسته "لجنة الاقتصاد الكلّي" في البرلمان عام 2012، لتنوُّع الإنتاج من أجل كسر الوصفة النيوليبرالية النمطية، والتي تسلّم رِقاب الشعوب ودمائها إلى حفنة من شركات عملاقة تتحكّم في السوق التجارية ولقمة العيش ومستقبل الحياة.
في هذا السياق، يخطو النموذج البديل خطواته الأولى نحو "نظام اقتصادي جديد" يدعو إليه رضائي وحكومة رئيسي، قوامه توطين الثروة في إيران والمنطقة عبر وقف الاعتماد على سلاسل الاستيراد، وتعزيز التبادل في الجوار والمنطقة.
القاعدة، التي يرتكز عليها النموذج البديل، هي حياة الإنتاج محل حياة الاستهلاك البذيء، عبر الركون إلى تعزيز الصناعات المحلية ومستويات الإنتاج للمنشآت الصغيرة والمتوسّطة، والتي تخلق فرص عمل المنتِجين والعاملين، بدلاً من أوهام المراهنة على الشركات الكبرى في السوق الدولية، والتي تقضي على الإنتاج وفُرص العمل، وتُرسي أسس النهب وفساد الحياة.
يبدو أن بايدن، الذي يستعدّ لترحيل الجيوش من المنطقة، يشجّع وحلفاءَه الأوروبيين بعضَ الحكومات التابعة على التفاهم فيما بينها بشأن زيادة الشيء من الشيء نفسه، بذريعة "التعاون والشراكة"، أملاً في المراهنة على تسويق أوهام إدارة الأزمات في صيغة قديمة ــ جديدة. لكنّ محور المقاومة، عبر "النظام الاقتصادي الجديد"، يشقّ طريق نموذج الحلول في منطقة متعطّشة إلى إزاحة الغمّة المميتة والنهوض.