حرص الإمام زين العابدين (عليه السلام) على ترسيخ مبادئ الثورة الحسينية
سيرة الائمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) تمثل المسيرة الواقعية للإسلام بعد عصر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) ، ودراسة حياتهم بشكل مستوعب تكشف لنا عن صورة مستوعبة لحركة الاسلام الاصيل الذي اخذ يشق طريقه الى أعماق الامة بعد ان اخذت طاقتها الحرارية تتضاءل بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه واله وسلم) ، فأخذ الائمة المعصومون (عليهم السلام) يعملون على توعية الامة وتحريك طاقتها باتجاه ايجاد وتصعيد الوعي الرسالي للشريعة ولحركة الرسول(صلى الله عليه واله وسلم) وثورته المباركة ، غير خارجين عن مسار السنن الكونية التي تتحكم في سلوك القيادة والامة جمعاء.
الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وهو المعصوم السادس من أعلام الهداية والرابع من الائمة الاثني عشر بعد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والذي جسد الاسلام المحمدي بكل ابعاده في حياته الفردية والاجتماعية في ظروف اجتماعية وسياسية عصيبة فحقق القيم الاسلامية المثلى في الفكر والعقيدة والخلق والسلوك وكان نبراساً يشع ايماناً وطهراً وبهاءً للعالمين .
نشأ الامام في ارفع بيت واسماه الا وهو بيت النبوة والامامة الذي اذن الله ان يرفع ويذكر فيه أسمه (( في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )) ، ومنذ الايام الاولى من حياته كان جده الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السلام) يتعاهده بالرعاية ويشع عليه من أنوار روحه التي طبق شذاها العالم بأسره ، فكان الحفيد بحق صورة صادقة عن جده يحاكيه ويضاهيه في شخصيته ومكوناته النفسية .
عاش الامام (عليه السلام) في كنف عمه الامام الزكي الحسن المجتبى (عليه السلام) سيد شباب اهل الجنة وريحانة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وسبطه الاول ، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه ، ويغرس في نفسه مثله العظيمة وخصاله السامية ، كان الامام (عليه السلام) طوال هذه السنين تحت ظل والده العظيم أبي الاحرار وسيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) الذي راى في ولده علي زين العابدين (عليه السلام) امتدادا ذاتياً ومشرقاً لروحانية النبوة ومثل الامامة ، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته ، وقدمه على بقية ابنائه في أكثر اوقاته .
روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال : كنت جالساً عند رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال (صلى الله عليه واله وسلم) : (( يا جابر يولد له مولود اسمه علي ، اذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم (سيد العابدين ) فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام )) .
وكان الزهري إذا حدث عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال : حدثني ((زين العابدين )) علي بن الحسين ، فقال له سفيان بن عيينة : ولم تقول له زين العابدين ؟ قال : لأني سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال ؛ (( إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ أين زين العابدين ؟ فكأني أنظر الى ولدي علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب يخطو بين الصفوف )) ؟. وجاء عن الامام ابي جعفر الباقر (عليه السلام) انه قال :(( كان لأبي في مواضع سجوده آثار ناتئة ، وكان يقطعها في السنة مرتين ، في كل مرة خمس ثفنات ، فسمي ذا الثفنات لذلك)). وكما جاء عنه عن كثرة سجود ابيه : ما ذكر لله عز وجل نعمة عليه الا وسجد ، ولادفع الله عنه سوءً إلا وسجد ولا فرغ من صلاة مفروضة الا وسجد ، وكان اثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمي بالسجاد.
أن الامام زين العابدين (عليه السلام) قد عاش أقسى فترة من الفترات التي مرت على القادة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لأنه عاصر قمة الانحراف الذي بدأ بعد وفاة الرسول الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ، ذلك ان الانحراف في زمن الامام زين العابدين(عليه السلام) قد أخذ شكلاً صريحاً لا على مستوى المضمون فقط بل على مستوى الشعارات المطروحة ايضاً من قبل الحكام في مجال العمل والتنفيذ ، وانكشف واقع الحكام لدى الجماهير المسلمة بعد مقتل الامام الحسين(عليه السلام) ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الامة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية .
ووجده (عليه السلام) في محنته في خط الجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين ، ومن ثم عاش مع عمه الامام الحسن (عليه السلام) في محنته مع معاوية وعماله وعملائه ، ومع أبيه الحسين (عليه السلام) وهو في محنته الفاجعة الى ان استقل بالمحنة وجهاً لوجه ، وقد وصلت به المحنة ذروتها عندما رأى جيوش بني أمية تدخل مسجد الرسول (صلى الله عليه واله) في المدينة وتربط خيولها في المسجد ، هذا المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها الى العالم أجمع ، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الامام زين العابدين (عليه السلام) كثيراً من الذل والهوان عل يد الجيش الاموي الذي اباح المدينة والمسجد معاً وهتك حرمات النبي(صلى الله عليه واله) فيهما جميعاً .
من الوسائل التي استعملها الامويين مع المعارضين في ذلك العصر هو القتل ، ويعد ابسط الوسائل ، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب على الاشجار وتقطيع الايدي والارجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي .
وقد قام الامام زين العابدين (عليه السلام) بأداء دور مهم في تصديه بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث ، فأمر برواية الحديث وحث على ذلك ، وكان يطبق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها ، وقد روي عنه قوله (عليه السلام) إن افضل الاعمال ما عمل بالسنة وإن قل )) .
إن أهم أهداف القادة الالهيين هو إصلاح المجتمع البشري بتربيته على التعاليم الالهية ، ولا بد للمصلح أن يمر بمراحل من العمل الجاد والمضني في هذا الطريق الشائك فعليه .
و في سن الشباب عاش محنة عمه الحسن وهو يلفظ كبده من السم الذي دسه إليه معاوية بن أبي سفيان. وتجرع في شبابه أيضاً، وهو طريح الفراش من مرض فتك به آنذاك، مصرع أبيه الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء، ومصرع إخوته وبني عمومته.
كما شاهد بأم عينه سبي عماته وأخواته من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، ورأى رؤوس الأهل والأصحاب الشهداء على الرماح يتقدمها رأس أبيه المظلوم الذي استشهد من أجل إحقاق الحق.
وكان (عليه السّلام) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه واسرته في كربلاء، وأحياناً كان يبحث عن المناسبة ليحدث بما جرى لأهل بيته.
لقد حرص الإمام زين العابدين (عليه السلام) على ترسيخ مبادئ أبيه سيد الشهداء في النفوس بأبعادها الفكرية والروحية وليس فقط الثورية, فقد دأب على إحيائها رغم الإعلام المضلل الذي مارسته السياسة الأموية.