من تموز 2006 إلى "سيف القدس".. ترويض "المستحيل"
نورالدين اسكندر
منذ نشوء كيان الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة، لم تشهد المنطقة استقراراً أمنياً حقيقياً، بل إنَّها لم تشهد فترات استقرار أمنيّ طويلة يمكن الأخذ بأسبابها وتحليلها وتبيان ما يمكن أن يدفع كياناً عدوانياً بطبيعته إلى عدم الاعتداء وضبط النفس، في مواجهة الرغبة الذاتية الجامحة بممارسة الجريمة، كتعبيرٍ عن نزعة وهُوية بنيوية في شخصية المحتل/المستوطن، الَّذي قدم من أصقاع العالم ليقتلع شعباً من أرضه، ويدّعي أحقّيته بتلك الأرض، غير أنَّ السنوات الـ15 الأخيرة شهدت استقراراً غير مسبوق في الجبهة اللبنانية، تمثل بتوقف الحروب الإسرائيلية والاعتداءات الواسعة التي كانت في السابق لا تفصلها سوى سنوات قليلة عن بعضها البعض، مع استمرار وجود اعتداءات تتمثّل بالخروقات اليومية للخط الأزرق والمياه الإقليمية اللبنانية، والأجواء اللبنانية أيضاً.
الطريق إلى الحرب
طوال العقود الماضية، استمرّ كيان الاحتلال الإسرائيلي بشن الحروب على لبنان، تارةً بحجة ملاحقة فصائل المقاومة الفلسطينية، وتارةً أخرى لاستهداف المقاومة اللبنانية. وطوراً، كانت الاعتداءات تعبيراً صارخاً عن أطماعٍ بالأرض والمياه والثروات، بالإخضاع السياسي وفرض اتفاقيات التطبيع المذلة.
وبعد نشوء المقاومة اللبنانية، استمرت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، متخذةً من أعمال المقاومة ذريعةً لتنفيذ مآربها، لكنَّ تصاعد وتيرة المقاومة بصورةٍ مستمرة خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، أوصل في العام 2000 إلى تحرير معظم الأراضي اللبنانية التي كانت محتلَّة من قبل العدو الإسرائيلي من طرفٍ واحد، وذلك من دون أي اتفاق سياسي أو هدنة. واعتبرت هذه المحطة بتفاصيلها عنواناً كبيراً لهزيمة إسرائيلية استثنائية ومفصلية، من خلال الرضوخ لضربات المقاومة وتحرير الأرض.
لم تستطع "إسرائيل" ابتلاع هزيمتها المدوية باضطرارها إلى ترك جنوب لبنان. استمرت بعد ذلك بالتجهيز لانتقامها لسنوات عديدة. 6 سنوات كانت كفيلة بأن تستنزف قدرة الإسرائيلي على تحمل انكسار شروطه التي كانت قبل ذلك الوقت تشكل حاجزاً نفسياً ودفاعياً اصطناعياً كبيراً يتم تضخيمه وتلميعه وإكسابه السمعة المطلوبة لجعله قابلاً للتصديق، بحيث يتخلى أي عربي عن فكرة المقاومة. عنوان هذا الحاجز مثّلته عبارة "الجيش الذي لا يقهر".
لقد مثل تحرير جنوب لبنان قهراً جلياً لـ"الجيش" الإسرائيلي والإرادة السياسية الإسرائيلية على حدٍ سواء.
حرب تموز: التحول الكبير في الجبهة اللبنانية
لقد كُتب الكثير حول الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/يوليو 2006. كثرٌ هم الذين دقَّقوا في تفاصيل الميدان، وأكثر منهم الذين بحثوا في الانعكاسات السياسية للمعركة ونتائجها. بالتأكيد، لم يقتصر الاهتمام بها على اللبنانيين أو العرب المعنيين بالصراع أو دول المنطقة، لأن انعكاسات تلك الحرب حازت اهتماماً عالمياً منذ حدوثها، لأسباب ترتبط بالتفاعلات التي تراكمت منذ حدوثها، فكيف تحولت تلك المعركة البطولية في وجه "إسرائيل" من مجرد مواجهة للعدوان، وهي مواجهات لم تغب عن أي عدوانٍ إسرائيلي سابق، إلى محطة تأسيسية في مسار المقاومة اللبنانية، وفي السياق العام لمشروع المقاومة بشكل عام في المنطقة؟
لقد حدث ذلك من خلال تضافر مجموعة من العوامل، فقد برزت في تلك الحرب تطوّرات جديدة كلياً، أرادت المقاومة تظهيرها إعلامياً تحت مُسمّى "مفاجآت". لقد كانت حرب المفاجآت الصاعقة للعدو:
البارجة "ساعر". مدى الصواريخ. دقّتها. معادلات المدينة بالمدينة، والمنشأة بالمنشأة، والعاصمة بالعاصمة. وقبل ذلك كلّه، معادلة تحرير جميع الأسرى، ومبادلتهم بمعلومات عن جثث ورفات وأشلاء.
وشكّل عامل بناء القدرات الذي عملت عليه المقاومة اللبنانية لسنوات طويلة ركناً أساسياً في تحديد طبيعة تلك المفاجآت، وتغيير مسار النتائج الميدانية، وبالتالي العسكرية. لقد تمكنت المقاومة من تحقيق قدرات ذكية تم تثقيلها استراتيجياً لتوازي بأثرها أثر الترسانة الإسرائيلية الهائلة. بعد ذلك، خُلق توازن في القدرة على الأذى، لم يكن موجوداً قبل ذلك الوقت. وقد ساهم في تثبيت الأمن في المنطقة الحدودية حتى الآن.
وإلى جانب القدرات، راكمت المقاومة التجارب، فاستوعبت دروس الحروب السابقة؛ تلك التي كانت طرفاً فيها، وتلك التي لم تكن طرفاً فيها، لتشكل هذه التجارب الخلفية المعرفية الرابحة في التعاطي مع مختلف مستويات الحرب، ولا سيما القدرة على إدارة المواجهة زمنياً، والمواءمة بين الميدان والإعلام والسياسية. لقد برز هذا المعطى من خلال الأعصاب الباردة لقيادة المقاومة أثناء أصعب فترات القتال. إنها نتيجة التجارب، وليست وليدة الصدفة.
لكن ذلك لم يكن ليحدث لو أن معنويات المقاومة أصيبت. لقد حافظت المقاومة على غضبها وحماستها طوال عقود المواجهة، كما حافظت على البعد الثقافي الذي يختزنه الصراع. معنى ذلك أنَّ المشروع الثقافي في المقاومة أدرك منذ وقتٍ طويل أنَّ المسألة ليست خلافاً حدودياً أو خطراً محدوداً زمنياً، ويمكن بالتالي حلّه بسهولة. لقد واظبت المقاومة بصورةٍ ممنهجة على تعبئة أجيالها وبناء قوتها البشرية باهتمام يفوق بناء القدرات العسكرية، وثقّفتهم بمشروعها، وهو ما افتقدته جبهات أخرى كانت في يومٍ من الأيام تشتعل ضد الكيان المحتل.
ومن منطلق هذا الفهم للقوّة البشرية، كان التكامل الاجتماعي العسكري الذي استطاعت من خلاله المقاومة تحصين قوتها وتمتينها بقوة المجتمع الذي تعيش فيه، فاشتدت الرابطة بين القوتين، وهو ما ظهر في تلك الحرب، من خلال احتضان الشعب لسكان المناطق التي تعرّضت لأقسى درجات القصف والتدمير.
ولأنَّ "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، كما يقول كلاوزفيتز، فقد كان ممكناً أن يؤخذ بالسياسة ما لم يؤخذ بالحرب، وخصوصاً أنَّ المعطيات التي تكشفت في ما بعد أثبتت أنَّ الأميركيين (بشخص وزيرة الخارجية آنذاك كوندوليزا رايس) كانوا يضغطون باتجاه استمرار الحرب، حين وصل الإسرائيليون حد عدم القدرة على المتابعة، وأن هؤلاء الأخيرين استُنزفوا في الأيام الأخيرة حتى أصبح استمرار الحرب يمثل خطراً استراتيجياً عليهم. لقد تمكَّنت المقاومة من إدارة معركتها السياسية بنجاح، الأمر الَّذي مكّنها من الحفاظ على وجودها في معركة كان الهدف منها القضاء عليها حيلةً أو غيلةً.
بعدها كانت المعركة العسكرية البطولية التي جعلت هذه العوامل المجتمعة قوةً حاسمة في تحصين واقع المقاومة في جنوب لبنان، لتشكل حرب تموز/يوليو 2006 بمجرياتها ونتائجها حدثاً مفصلياً في سياق الصراع مع العدو، يكون ما بعده مختلفاً عما قبله، الأمر الذي انعكس على الداخل الإسرائيلي، بدءاً من "تقرير فينوغراد" وتداعياته، ووصولاً إلى كل النقاش الذي لا يزال يتردد صداه حتى الآن في الصحافة ومراكز البحث الإسرائيلية كمحطة للفشل، وكمكمن للخطر، كلما لاح احتمال اشتعال الجبهة الشمالية.
لقد تحولت تلك المحطة في الوعي الإسرائيلي إلى مصدر خوف حقيقي يحاول الإسرائيليون عدم العودة إليه في شتى الطرق، وخصوصاً أنَّ نتائجه غيرت بصورةٍ جذرية قدرة "جيشهم" على شن الحروب، فضلاً عن تأكد عدم قدرته على الفوز بها.
هذه العوامل كلّها أدت إلى جموده عند الحدود والاكتفاء بالمناورات والتهديد الكلامي، على الرغم من مرور فرص مؤاتية خلال السنوات الفائتة، حيث كانت المقاومة منشغلةً بصورة جزئية في معركة مكافحة الإرهاب التكفيري على الحدود الأخرى وفي سوريا.
معنى ذلك أن قوة الردع التي توفرت للمقاومة بعد تلك الحرب منعت "دولة" العدوان الدائم من شن أية حرب على هذه الجبهة منذ 15 عاماً.
"سيف القدس": التحول الفلسطيني
لقد تحوَّل انتصار المقاومة اللبنانية في حرب 2006 إلى نموذج يقتدى به في مواجهة الحرب الإسرائيلية. وقد شهدت السنوات الـ15 الماضية التي هدأت خلالها الجبهة اللبنانية استمراراً للعدوانية الإسرائيلية على جبهة غزة وفي الداخل الفلسطيني المحتل، فخاض الكيان حروباً متتالية في 2008 و2012 و2014، وكلما أراد ذلك، أو كلما تعقد المسار السياسي أمام قادة الاحتلال، لاستسهالهم تحقيق المكاسب السياسية على حساب الدم الفلسطيني.
لكن في أيار/مايو الفائت، تغير الكثير في هذه المعادلة. لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحويل معركة "سيف القدس" إلى "تموز فلسطينية"، فصنعت انتصاراً لا يحسب ضمن محطات القضم التكتيكي في المعركة الطويلة مع الاحتلال أو مجرد الصمود والاستمرار بالمقاومة، بل إنه يحسب في ميزان المعادلة الاستراتيجية كمحطة مفصلية تأسيسية لما سيأتي بعدها.
لقد ختمت المقاومة المعركة بنتائج باهرة، أولها إجبار العدو على وقف إطلاق النار من دون شروط، وبسرعة فائقة مختلفة عن المعارك السابقة، ومنعه من الاستيلاء على حيّ الشيخ جراح، وهي الشرارة الأولى التي انطلقت منها الحرب الأخيرة، إضافةً إلى تمكّنها من حماية المسجد الأقصى من الانتهاك مجدداً.
وتمكّنت المقاومة خلال هذه الحرب من تحقيق مستوى جديد من التناغم والاندماج بين أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، وخصوصاً الأراضي المحتلة العام 1948، ومنع استفراد العدو بالمدن والقرى، كل واحدةٍ على حدة.
وحافظت المقاومة على آليات عملها وقدراتها وامتداداتها السياسية والعسكرية من دون أذى طوال المعركة وحتى اللحظة الأخيرة من المواجهة، ثم كان الدمج بين الحرب الافتراضية والحرب الواقعية على الأرض، ليتحقّق للفلسطينيين انتصار آخر في معركة الوعي، انعكس في النقاش السياسي والإعلامي الإسرائيلي بعد الحرب.
هذه المعطيات وغيرها أدت إلى حشد حالة التضامن الشعبي في الخارج مع القضية الفلسطينية. كما أدت إلى تثمين قيمة خيار المقاومة استراتيجياً في مواجهة خيار التطبيع. وفي الحرب الأخيرة أيضاً، أظهرت المقاومة قدرتها على إلحاق الضرر الاقتصادي بالعدو بصورة تفوق المرات السابقة، وخصوصاً مع اضطراره إلى إقفال مطارات ومحطات إنتاج طاقة وقطاعات أعمال واسعة...
ولم يتمكّن الاحتلال من فرض أية شروط تقيد عمل المقاومة في المستقبل، بل إن تنويع وسائل المقاومة بين الإضراب والاحتجاجات الشعبية والعمل العسكري والعمل الإعلامي والافتراضي... أكسبها أبعاداً جديدة وأسلحة أكثر مرونة وفاعلية، بحيث ترافقت المقاومة الصاروخية المسلحة مع حملات المناصرة في وسائل التواصل الاجتماعي، مع إضراب الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة العام 1948 في وقتٍ واحد، وفي معركة محددة، وباتجاه واحد، نحو النّصر.
وكان توسيع رقعة المعركة لتشمل كلّ فلسطين، من الحدود اللبنانية إلى البحر الأحمر، عاملاً جديداً كلياً على الاحتلال الَّذي اكتشف أن ما يجري حدث تأسيسي حقيقيّ في سياق الصراع، ويحمل بوادر ومؤشرات تدلّ على تحوّل، وخصوصاً لناحية استنهاض الدّاخل واستعادته بقوة إلى نمط العمل الميداني المقاوم.
واليوم، يأتي انتصار فلسطين في الذكرى الخامسة عشرة لانتصار لبنان على الكيان الإسرائيلي. إنه تصعيد دراماتيكي لزمن الانتصارات، وتسريع للنمط بصورةٍ تجعل الوعود الكبيرة قريبة.