ولادة تهدئة في الظروف الحالية أمر متعسّر جدا وليس مستحيلا
محمد صادق الحسيني
بدخول غزة معترك القضايا المرتبطة بالقدس تكون قد ربطت مصيرها في السلم والحرب بكل ما يحدث وسيحدث في المدينة المقدسة ، ولا يخفى على الخابر أن المدينة وصلت حسب التوقيت اليهودي التوراتي إلى نقطة اللاعودة وحان الآن تنفيذ أحلام يخطط لها من سبعين عاما ، فإما الحسم وإمّا انحسار المشروع اليهودي برمته وفق هرطقات اليمين الديني .
نتنياهو الآن مستعد لتقديم كل مطلوب معيشي لغزة مقابل الخروج بتهدئة لا نضع فيها القدس ضمن بنودها ، فقد أثبتت التجارب أن التسهيلات المالية والمعيشية لم تمس شعبية نتنياهو حتى وإن ساعدت الدورة الاقتصادية الغزية في تحور المال إلى جهات مؤذية ؛ الشعب الصهيوني غالبا ما ينظر إلى مخاطر قصيرة المدى تتعلّق برفاهية اللحظة التي يعيشها ، وبهذا يكون نتنياهو قد أسكت جبهة غزة وخرج برضا اليمين الديني الذي سيعينه بعدها بشكل مستميت على البقاء في " الملك " .
لقد كانت كلمة هنية واضحة بالأمس والنخالة اليوم بأنه لا توجد لغزة أي مطالب في هذه الجولة وهنا مكمن القوة الفكرية والأخلاقية للمعركة ، فما هي المعادلة التي ستحقق التهدئة إذن ؟ المقاومة لن تقبل أي تهدئة تستيقظ في يومها التالي على صراخات الشيخ جراح أو اقتحام المسجد الأقصى ، كذلك إن خضع نتنياهو في قضية متعلقة بالقدس فإن حلم إسرائيل لأول مرة سيكون بشكل معلن في خطر لأن نتنياهو قبل أنه يضعه على طاولة المفاوضات تحت ضغط القوة وهذا معناه أنه من الممكن أن يفرّط فيه أو في بعضه في مقدمة التفريط الكامل .
في ذات الوقت القوة العسكرية الصهيونية دخلت مرحلة الإرهاق وحجم الذخيرة ليس بلا حدود وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية وإن كانت تتفوّة بنفس جمل الماضي إلا أن نفسها انكفائي والجيوش الأمريكية في حالة انسحاب ، والعالم ذاهب إلى تعددية الأقطاب ، وإسرائيل لوحدها لا تستطيع مجابهة أعدائها ، مما يؤكد ذلك أنّ يوم الجمعة كان الأخف ضغطا على غزة بسبب اشتعال جبهات الضفة الغربية والداخل والأردن ولبنان والشام وفي معظمها جبهات سلمية ، ماذا لو تطورت إلى عسكرية ، استنزاف قوة إسرائيل بهذا الشكل يُخرجها جريحة أمام أي سيناريو عدوان خارجي مفاجئ في ظل صراعاتها مع جبهات مختلفة كان على أثرها سقوط صاروخ قبل شهرين بالقرب من مفاعل ديمونا اعتبر حينها رسالة تهديد .
الولايات المتحدة الأمريكية هي أيضا ليست في حالة تصالح مع نتنياهو والمشروع اليساري العالمي الذي ينتمي إليه الحزب الديموقراطي ويهود أمريكا الليبراليون يعتبرون نتنياهو كابوسا لابد أن يزول فهو الذي يدمر الدولة بتشويه جسدها لخلق أجسام تبقيه في حكم فاق مدته بنغريون مؤسس الدولة ، لذلك هي تنظر إذا ما كان في الإقدام على التهدئة فرصة لإضعافه أو العكس . في حال نجاح اليمين الديني في فرض المزيد من السيطرة فهذا سيعمّق انفصال الحكم الأمريكي الليبرالي عن المشروع اليهودي الديني الذي هزم المشروع الصهيوني العلماني .
أمام نتياهو خياران أمام العلاقات الأمريكية المستجدة ؛ إمّا تكليف الموساد باغتيال بايدن الرئيس الكاثوليكي الثاني بعد جون كيندي المغتال سابقا على يد الموساد وإما البحث عن أحلاف جديدة متناقضة المصالح ؛ منها فرنسي يوناني عربي ومنها روسي ، الخطير أن انفضاح القوة الصهيونية أمام غزة يُضعف ترتيب إسرائيل في تلك الأحلاف ويجعلها في الذيل ويُذهب الهيبة التي يتخيلها بعض مكونات الأحلاف ويستقوي بها على خصومه من الجيران .
إذا أراد نتنياهو مخرجا وسطا فسيرسمه كما يلي : عدم تورطه في نص يتعلق بالأقصى والقدس وفي ذات السياق يفرض هدوءً مؤقتا في مدينة القدس عمره بضعة أسابيع أو شهور ، عندها سيخرج من الحرب من طرف واحد وسيكون رد غزة أنها تعتبر انسحابه هزيمة وأنها ستعاود مراقبة وضع القدس عن كثب تحت معادلة "إن عدتم عدنا". وطالما أنّ غزة قد رأت وضع المدينة يغلب عليه الهدوء فإنها لن تضطر للتصعيد خاصة أنها ستكون في حالة ترميم استعدادا للجولات التالية ، أما إذا عاود اليمين اليهودي عدوانه في اليوم التالي فإنّ التهدئة عمرها ساعات أو أيام ، من الآن فصاعدا فإن كل تغول في القدس سيقابله تصعيد في غزة وقد أحكمت المعادلة وجفّت عليها الصحف .
مع نهاية هذه الجولة سوف يشتعل الصراع الصهيوني الداخلي في ظل عطش نصف الجمهور لرحيل نتياهو وقد اقترب موعد تسليم الحكم لغانتس حسب الاتفاقية التي ترعاها المحاكم ، فإن تمرّد نتنياهو أو اخترق النظام القضائي فهو ذروة تفكك الكيان ولربما يعلن كل منهم عن نفسه رئيسا للوزراء وهذا سر بقاء غانتس في الحكم وتغلغله كنتياهو في الدولة العميقة وصناعته نفوذا وسط الجيش .
لا تنظروا إلى الخسائر في المباني والطرقات فهذا كله يُرمم وليس بأغلى من أسوار الأقصى والقدس ، والتحرير قريب وفرج الله فيه أقرب من إعمار ما هُدم ، الخسارة في المواقف ثم أرواح البشر وهي في الحقيقة خسارة للأحياء وربحٌ لمن قضى في سبيل الله ، نحن حققنا الهدف الأكبر بدخولنا لأول مرة معركة ليس عنوانها الحصار ولا المال ولا صد العدوان إنما عنوان يتشرف به كل مسلم ، وسواءً باتفاق أو بدونه ستحسب إسرائيل مليون حساب لأي خطوة تتعلق بالقدس بعد الآن ، ومن الضروري الآن الاستعداد للجم المزاودين الذين يستعدون لتقزيم جهادكم تماما كما سخروا في كل محطة وجزئية وأنتم تبنون بنيانكم وشعاركم " إن تسخروا منا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون "
ولتنتظروا فرج الله ، وحتى لو اشتد الوطيس فاعلموا أن بعد الزلزلة " ريحاً وجنوداً لم تروها " ، أحداث إعجازية يغيث الله بها الصابرين ليعلم البشر أن الله أحاط بالناس.
ولتنتظروا تحقيق قوله تعالى: " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاّ لم تطؤوها وكان الله على كلّ شئٍ قديرا "