الصبر الصيني والسجاد الإيراني ورقعة الشطرنج في الساحة الاقليمية
د. عبدالله يوسف سهر
بفضل استراتيجية الصبر الاستراتيجي التي طورتها الصين من جذور ثقافتها الحضارية منذ القدم، عبورا بحربي "الافيون” ضد البريطانيين في القرن التاسع عشر ووصولا الى استعادة جزيرة هونغ كونغ بعد اتفاقية ال 99 عاما بعدما فرضها المستعمر البريطاني في عام 1898، بلغت الصين مرتبتها الدولية الحالية على سلم القوى الدولي وهي حالياً تشتق طريقها الى قيادة العالم. الإيرانيون كذلك يمتهنون استراتيجية الصبر التي لا تنفك عن الثقافة الفارسية القديمة. وتجسيدا لتلك الثقافة، ينقل أن أحدهم سأل الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني عن الأسباب التي دعت دولته لإطالة أمد الحرب مع العراق خاصة وان أيران لم تحصل على انتصار حقيقي! فكان رد رفسنجاني دبلوماسيا عميقا مختلجا بالفكاهة والدهاء حيث قال: إننا نمكث عشرات السنين من اجل صناعة سجادة واحدة، وتريد منا أن ننتهي من الحرب بأقل من هذه المدة!!
الصبر الصيني تمثل في القدرة على امتصاص الضربة من الخصم وتحويلها من وضعية الانصياع الى تكتيكات المماحكة ثم النفوذ. من جهة أخرى، نجد بأن الصبر الصيني قائم على فلسفة "الينغ- يانغ” التي يمتد عمرها لأكثر من 3500 سنة وتفترض بأن الكون يتضمن ازدواجية متناقضة ولكنها متكاملة في نفس الوقت، فالنهار يتناقض مع الليل ولكنها متكاملان لصيرورة توالي الزمن، والسلب والايجاب متناقضان ولكنهما متكاملان من أجل اشعال الضوء، وهكذا. كما يعتقد بأن فنون الكونغ فو القتالية تعود الى أفكار أحد الرهبان البوذيين الذي طورها من خلال التوازن بين الانضباط الداخلي للإنسان والقدرة على التصدي، فهي تقوم على ثنائية التكامل البشري بين "الكونغ” التي تعني الإنجاز "والفو” والتي تعني الرجل. ولا شك أن ذلك جمع فلسفي عميق بين عقيدة التسامي الدينية والعنف الدفاعي المبرر، وبين الزخارف والتعابير الفنية التي يشتهر بها الصينيون وبين فنون القتال. لذلك، يبدو البرود الصيني في المماحكة الدبلوماسية وردود الأفعال متكاملا مع الإصرار على الإنجاز السريع.
الصينيون يعتقدون بأنهم دولة كبيرة ومميزة بل هي مركز الكون وقد استهدفت من دول اصغر منها وفرض سيطرة غير مبررة عليها كمن قبيل الاستهداف الياباني المتكرر واحتلال أراضي منها لفترات طويلة، علاوة على الغزوات البريطانية – الفرنسية في القرن التاسع عشر التي لا تزال محفورة في ذاكرة التاريخ الصيني العريق كوصمة عار لابد من محوها بأكبر منها.
الإيرانيون هم كذلك أيضا، لا تنفك سياستهم عن ثقافتهم القديمة منذ الملك قوروش الذي حكم بلاد فارس ما بين 560-529 قبل الميلاد. يقول أحد أهم المتخصصين في السياسة الخارجية الإيرانية وهو روح الله رمضاني الأمريكي الجنسية والإيراني الأصل واستاذ العلاقات الدولية في جامعة فرجينيا إن الامبراطور قورش الاول أقام دعائم استراتيجيته على أسس الواقعية التي تفترض حسن توظيف قواعد التوازن. ويستعرض رمضاني السياسة الخارجية الإيرانية منذ ذلك التاريخ عبر العصور الساسانية والصفوية والقاجارية والبهلوية وصولا الى النظام الجمهوري الحالي في ايران ويستخلص منه ان تلك الثنائية الممزوجة بين الواقعية والتوازن لا تزال تمثل النكهة الأساسية في السياسة الخارجية الإيرانية. من هذه الثنائية يؤسس الإيرانيون سياستهم من حيث التوازن بين واقعية المصالح الوطنية ومثالية الشعارات الإسلامية، وبين الاهتمام بالداخل وعدم اهمال الخارج، وبين صناعة الفنون الزخرفية والتصاوير الرقيقة على السجاد الفاخر وبين عنف المصارعة الايرانية. الإيرانيون كالصينيون يعتبرون انهم وقعوا تحت نير الاستهداف الخارجي من قبيل الغزو المنغولي والأفغاني والروسي والعثماني والبريطاني والعراقي "الصدامي” الى الأمريكي في الوقت الراهن.
اذن هناك مساحات تاريخية وثقافية وسياسية تتقاطع ما بين الصين وايران، بل وحتى بالشعار تجد أن الصين تستخدم التنين الأسطوري بينما تستخدم ايران الأسد الخرافي، وهكذا تكون الشمس ذات دلالة تراثية لدي الثقافتين. التنين الصيني والأسد الإيراني، ومن خلال الاتفاقية التي ابرمها كلا الطرفين مؤخرا يبدو بأنهما عازمان على بسط طلوع شمس جديدة مع بداية أفول القمر الأمريكي، وذلك من خلال توظيف استراتيجية الصبر والتوازن التي اتفقا عليها تاريخيا بعلاقاتهما السياسية مع الآخر.
لعل هذا المقاربة التاريخية – الثقافية الموجزة تلقي بشيء من الضوء على العلاقة الصينية – الإيرانية المستقبلية التي في اعتقادي انها قد نقلت علاقتهما التقليدية الى الاستراتيجية.
فالاتفاقية الموقعة مؤخرا، والتي لا يزال جزء منها في طي الكتمان ليست ذات طبيعة اقتصادية بحتة، فنباء مجمعات ومصانع أسلحة وتبادل معلومات استخباراتية واجراء مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة ليست ذات علاقة بمسار الصيني في مشروع الحزام والطريق، بل هو اكثر من ذلك. وأدل على ذلك السلوك الأمريكي الأخير الذي اخذ يراود البيت الأبيض وبعض الدوائر البحثية والاستراتيجية الأمريكية التي استشعرت إن المصالح الأمريكية بالمنطقة تقف على حافة تقاطع جديد يتعين بموجبه أن تكون لمخالب النسر الأمريكي حظ "بفريسته”، واللبيب يفهم الإشارة!
المشهد الاستراتيجي القادم بالمنطقة "صعب جدا” وهذا ما يتعين على دول الخليج أن تستوعبه وتتعامل معه وفقاً لاستراتيجية جديدة قوامها الصبر والتضحية خاصة في ضوء المستجدات السياسية الإقليمية والدولية القائمة.
فدخول الصين على المشهد الشرق أوسطي والخليجي على النحو المشهود، لا يخلو من تغييرات جوهرية ستحل على معطيات جدلية القوة والمصلحة التي تحكم علاقات الدول. كما أن المفاوضات الأوربية الامريكية مع ايران فيما يتعلق بالملف النووي للأخيرة ينبأ بتحولات سياسية سترمي بظلالها على ميزان القوى بالمنطقة وبما يخدم الجانب الإيراني أكثر مما هو لصالح الدول الخليجية.
ومن جانب آخر، فالمواجهات الإيرانية الإسرائيلية الباردة – الساخنة سيتولد منها مربع لعلاقات تنافر وتجاذب جديدة ليست لصالح الكيان الصهيوني في ظل المعادلة الصفرية التي تحكم العلاقة بين الطرفين.
وعليه، سيحاول الكيان الصهيوني أن يورط أطراف ثالثة في هذه المواجهة ومنها الولايات المتحدة الامريكية وبعض دول الخليج. وواشنطن في عهد الرئيس بايدن منتبهة جداً الى تلك الورطة (predicament) التي ستسبب معضلة (Dilemma) سياسية لها في المستقبل المنظور، ولذلك فهي تسعى جاهدة لحلحلة الخلاف مع طهران بسرعة قبل انفجار الموقف.
فمن جهة تدرك الولايات المتحدة الامريكية أن إطالة أمد الحصار على إيران لم يعد نافعاً في الضغط على الأخيرة بشكل سلبي خاصة في ضوء علاقتها المتصاعدة مع الصين مما يفتح المجال لاحتمال دخول طهران إلى نادي الدول النووية، في حال الاستمرار في زيادة تخصيب اليورانيوم، وحينها لن يكون أي حل عسكري مجدياً. ومن جهة أخرى، تشير الدلائل بأن إدارة بايدن تدرك أن أية مواجهة عسكرية بين إيران وإسرائيل ستجعلها في موقع حرج لا تتحمل عواقبها السياسية في الداخل الامريكي إن لم تضطلع لصالح الكيان الصهيوني وفي نفس الوقت ليس لديها الاستعداد للمجازفة العسكرية لكونها قد تتحمل الحصة الأعظم من الخسائر المحتملة. وهذه المعضلة هي التي تفسر التوجه لتسريع عجلة المفاوضات في فينا لكي يعود الاتفاق كما كان.
وإيران من جانبها تدرك جيدا تلك المعضلة الامريكية وهو ما يجعلها "تتلكأ” وتتراوح مواقفها بين الشد والجذب إزاء تلك المفاوضات.
وفي ظل مشهد المسرح السياسي القائم، نجد بأن جميع اللاعبين (أمريكا، الصين، ايران، الاوربيين، إسرائيل) قد حددت أهدافها القريبة والبعيدة المدى وبنت مواقفها وفقاً لذلك فيما عدا الدول الخليجية التي غدت تتعامل مع الوضع كمشاهد فقط بينما هي المعنية بالدرجة الأولى لكون محددات ومجريات هذا المسرح تتعلق بالأساس بأمنها القومي بشكل مباشر.
ولعل المملكة العربية السعودية قد أوجست تلك الحالة فدعت لشمولها في المفاوضات التي تجري في فيينا والمتعلقة بالملف النووي الإيراني حتى يمكنها التموضع في معادلة المصالح، بيد أن جميع الجالسين على طاولة المفاوضات لم يكترثوا بل مانعوا تلك المشاركة.
فما هو الحل أو المخرج الذي يمكن لدول الخليج أن تسلكه لكي تدخل في معادلات المسرح الاستراتيجي القائم؟
ليس سهلا إيجاد سبيل ميسرا في التأثير على حركة رقعة الشطرنج، ولكن ثمة عدة مسارات يمكن ان تضاعف فرص الدول الخليجية لتصميم خصال جدائل المصالح والقوة المتدلية على أكتافهم.
أولا، اعتقد بأن دول الخليج يمكن لها أن تتعامل مع الصين من خلال كتلة مجلس التعاون وليس بشكل منفصل. فالاتفاقيات والتفاهمات التي تمت انفرادياً والأخرى التي ستتم مع الصين يتعين ان تكون من خلال كتلة واحدة من أجل أن تشعر كل من بكين وواشنطن معاً بتغيير جديد في الموقف السياسي يضفي رقماً جديداً على المعادلة القائمة بما يستوجب بإعادة حساباتهما. إن استراتيجية "التغيير المفاجئ” هي التي تجعل الخصوم والأصدقاء معاً يلتفتون بشكل أكثر جدية لأي طرف مما يستدعي شموله في أي معادلة قائمة. وبناء عليه، عن كانت دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر التفاوض الجماعي مع الكتل والدول الأخرى خياراً في يوم من الأيام فهو في الوضع الراهن يعتبر "اتجاه جبري” من اجل صيانة امنهم القومي في المرحلة القادمة قبل فوات الأوان.
ثانيا، يتعين على دول الخليج أن تمنع الكيان الصهيوني اقحامها في ملف مواجهته مع ايران، من خلال استغلال الخلافات الخليجية الإيرانية. إن طبيعة الخلافات الخليجية الإيرانية، على الرغم من جديتها، إلا إنها مختلفة تماماً عما هي عليه بين إيران وإسرائيل، وعليه يتعين الفصل بينهما لكون المستفيد الأول من ذلك الدمج هو الكيان الصهيوني الذي يسعى جاهداً لتوريط دول الخليج وايران لمواجهة عسكرية مباشرة تكون بعيدة عنه، وفي ذات الوقت لتوسيع مساحة المواجهة وتعقيدها وإبعاد الجوانب الأيديولوجية والحضارية والاستراتيجية عنها.
ثالثاً، لقد جاء الوقت الملح بفتح باب حوار مباشر بين كل من السعودية وإيران عبر الكويت بصفتها وسيطاً مقبولاً ولما تكتنزه من تراث سياسي في ممارسة دور الوسيط الإيجابي للتفاوض. فعلى الرغم من الأخبار المتداولة التي تفيد بمثل هذه اللقاءات التفاوضية قد تمت في بغداد إلا إن الأخيرة تظل محدودة في بيئة "معقدة” سياسياً وطائفياً وخارجياً تجعل من عملية نجاح التفاوض امراً صعباً.
على أي حال، دول المنطقة جميعها سواء تلك التي في إطار مجلس التعاون أم خارجه ستدفع أثمان متفاوتة في حال عدم تمكنها من تجسير الفجوات القائمة بينها وتغيير مسارها السياسي الى اتجاهات أخرى خارج الصندوق التقليدي بحيث تعود عليها بالمنفعة الاستراتيجية في مخاض دولي واقليمي قادم لا محال.