kayhan.ir

رمز الخبر: 128422
تأريخ النشر : 2021March14 - 20:17

المقاومة ومواجهة الفساد في لبنان في ظل حاكمية الدين والقرآن


د. فرح موسى

يشكّل السؤال عن الأسباب الكامنة وراء انحسار العدالة وتعاظم الفساد في المجتمع اللبناني هاجسًا دائمًا يتبادر إلى ذهن كل مواطن، وهو يعاني من استمرار تدهور الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي أرهقت كاهله، وجعلته كالغريق الذي يتمسّك بقشة أملًا في أن تنقذه من المصير الأسود، ولذلك قد ترتسم عند البعض علامات استفهام حول المسوّغات الدينية والشرعية لما يروه من انحسار في الدور والوظيفة لأهل الإصلاح والمقاومة، وعن أسباب عدم تمكّن قادة الإصلاح والمقاومة من حماية المجتمع من شرور الرهط المفسدين.

يكاد يكون الردّ على هذه الإستفهامات ملتبسًا، لما يتميّز به المجتمع اللبناني من خصوصية دينية ومذهبية تجعل من الإجابة على الأسئلة المتراكمة أكثر التباسًا، ولكن لا بد أن يكون السؤال وكذلك الإجابة عليه مسوّغًا قرآنيًا، لأن الإنتماء للقرآن أو لغيره من الكتب السماوية يحتّم على القيمين على الشأن العام، سواء في مجال السياسة، أو في مجال الدين، أن يكونوا منسجمين مع رؤيتهم الدينية في ما تدعو إليه من تحقيق للعدالة ومقاومة الفساد، وهذا ما يدعونا في الإجابة الى ملاحظة واقع كل اجتماع إنساني يعيش حالة التنوّع الديني، وهكذا يفترض دائمًا التعامل مع الموقف القرآني تجاه قضايا المجتمعات الإنسانية ومأزقها الدينية والسياسية، لأن الموقف القرآني يتجاوز المحدودية ليلامس آفاق كلّ تحوّل بشري على نحو يؤدي بالبحث الى أن يكون أكثر شمولية. ولهذا جاءت التأسيسات الفقهية مميّزة بين المجتمعات على أساس رؤية موضوعية، تنطلق من وحدة النظرية الإسلامية واختلاف تطبيقاتها في الواقع، بين أن تكون مجتمعات خالصة دينيًا أو معاهدة، أو محاربة، كما هو حال كل تقسيم فقهي درج عليه الفقهاء في بحوثهم الدينية والسياسية.

ويأتي لبنان في طليعة المجتمعات المتعاهدة، وقد سبق لهذا الوطن المتداعي أن تعايش الى حد التماهي بين مكوّناته الدينية؛ ولكن ما آلت إليه الأحداث في الإقليم ربما يكون قد هيأ لهذا البلد أن يخرج من تعاهده بتأثير من محيطه الذي لا بد من التفاعل معه سلبًا أو إيجابًا، وذلك لاستحالة أن يكون بلدًا محايدًا وهو على تماس مباشرة مع العدوانية الصهيونية منذ عشرات السنين. وانطلاقًا من ذلك، نرى أن القرآن يطرح العدالة ويأمر بها بمعزل عن حالات الرضا والقبول أو الرفض، فهو يقول: "ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.."، فالله يأمر بالعدل والإحسان، ويدعو إلى مواجهة الفساد، وكل من ينتمي الى القرآن لا يسعه إلّا أن يكون ملتزمًا بالموقف القرآني، ولكن هذا لا يحتّم تجاوز الشروط الموضوعية لتحقيق العدل ومواجهة الفساد، وقد سبق لأهل القرآن الذين اصطفاهم الله تعالى للتعبير عنه أن قدموا نماذج رائعة في العدالة، كما فعل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع).

وإذا كان جوهر التساؤل هو تحميل المقاومة مسؤولية السكوت على الفساد والمفسدين، فإنه يمكن الإجابة على التساؤل مما يراه القرآن والتجربة التاريخية لأهل الحق في التاريخ؛ فالذي استوجب أن يكون الإمام الحسين (ع) شهيدًا هو ضرورة الإصلاح في الناس وليس الإصلاح بين الناس، مع أن الإمام الحسين (ع) كان سيفعل في كربلاء ما فعله حتى لو كان الأمر متعلّقًا بشأن الإصلاح بين الناس، فحيث يكون الأمر كذلك فليس ثمة حاجة للتضحية بالولد والأهل وبكل شيء لأجله، فهو القائل: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي.."، فالفساد كان عموديًا بدلالة الظرفية في كلامه، وكان لا بد من حماية وجود الإسلام وليس الدولة أو السلطة.

كما نعلم أيضًا أن الفساد في المجتمع اللبناني كانت الطوائف والمذاهب ولا تزال تقوم به منذ تأسيس لبنان، والمقاومة التي يطلب منها مواجهة الفساد والقتال لأجل ذلك ليست طائفة أو مذهبًا أو حزبًا وإنما هي منذ تأسيسها التزمت حماية لبنان من العدو، وكان يفترض بالطوائف والمذاهب أن يلاقوها على هذا الهدف، لا أن يفسدوا الواقع اللبناني لحماية مصالحهم، ثم يراد للمقاومة أن تخوض حرب المصالح لحساب بعض المعتوهين في الدين والسياسة!! فحيث يكون الخطر الوجودي على لبنان تكون المقاومة، وعلى الطوائف والمذاهب والأحزاب أن تبادر إلى حماية وجودها قبل أن تفسده مصالح الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون!! فالمقاومة، وفق التجارب، تحتكم في رؤيتها وكذلك في موقفها إلى القرآن الكريم، وهي انطلاقًا من واجبها الديني والشرعي تأخذ المبادرة لحماية الوجود اللبناني وليس المصالح الخاصة لهذا الطرف أو ذاك.

أما أن يراد للمقاومة الإنخراط في أزمات الداخل فقد سبق لأهل البيت (ع) أن تعاملوا مع قضايا الفساد على النحو الذي يحفظ وجود الأمة والدين وليس الأشخاص، بدليل أن الإمام علي (ع) لم يشأ مواجهة بعض المفسدين في الكوفة حينما كانوا يؤدون الشعائر على نحو مخالف للإسلام، وكذلك فعل الإمام الحسن (ع) حينما صالح لحماية الدين، بعدما أكرهته الحزبية المقيتة على ذلك من خلال شراء الذمم وسياسات التجهيل!!

وينبغي ألا يأخذ بنا السؤال عن حاكمية القرآن ومدى انسجام سياسة المقاومة معها إلى مزيد من الالتباس، لأن المقاومة ليست طائفة ولا هي حزب تهمّه الدولة بما هي سلطة أمر ونهي، بل يهمّها حماية الوجود اللبناني، المسيحي والإسلامي من أن تطاله أيدي العابثين، دينياً وسياسياً، وقد سبق للسيد المسيح (ع) أن نادى في بني إسرائيل فآمنت طائفة وكفرت طائفة كما جاء في سورة "الصفّ" المباركة، وكانت النتيجة تأييد الذين آمنوا فأصبحوا ظاهرين.

إن أي مقاومة تنتمي إلى القرآن لا يسعها إلا أن تنادي في القوم أن اعبدوا الله واتّقوه، لا أن تنخرط في مواجهة الفساد وتكون جزءًا منه، أو ضحيّة له، على الرغم من أنها لم تقصّر يومًا في ترشيد الواقع لما فيه مصلحة الوطن والمواطن، على أنه في اللحظة الحاسمة التي يُراد فيها تهديد الوجود اللبناني سنجدها تبادر الى الإصلاح في الناس تأسّيًا بعظماء الأمة الذين وضعوا المال والولد والسلاح حيث يجب أن يكون... وهذه هي الرؤية القرآنية التي نرى أنها حاكمة على كل موقف لهذه المقاومة.