رسائل المرجع في لقاء البابا
عادل الجبوري
ثلاثة أيام من الفعاليات الرسمية والجماهيرية المتواصلة لزعيم الفاتيكان البابا فرانسيس خلال زيارته التاريخية للعراق، التي شملت العاصمة بغداد والنجف الأشرف وذي قار وأربيل ونينوى، حيث شهدت الكثير من الكلمات والأحاديث والخطب والتصريحات، وحظيت باهتمام سياسي وديني وإعلامي واسع جدًا لا على الصعيد المحلي أو الإقليمي فحسب، وإنما على الصعيد العالمي. وقد بدا ذلك واضحًا من حجم ردود الأفعال والمواقف المرحبة بهذه الزيارة التاريخية التي جاءت في خضم ظروف وأوضاع معقدة وشائكة وحساسة وحرجة يعيشها العالم من أقصاه الى أقصاه، إلى جانب التغطيات الإعلامية المستمرة لها بصورة استثنائية غير مسبوقة.
ولكن ما بدا وظهر واضحًا الى حد كبير، هو أن لقاء بابا الفاتيكان بالمرجع الديني آية الله العظمى الإمام السيد علي السيستاني، الذي دام مدة خمسة وأربعين دقيقة، كان الحدث الأهم والأبرز من كل برامج الزيارة، ولا يحتاج تأكيد هذا الاستنتاج الى الكثير من البحث والتقصي والتدقيق والشرح والتفسير، فما تناولته مختلف وكالات الأنباء العالمية والقنوات الفضائية الواسعة الانتشار، وغيرها من وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والإلكترونية عن لقاء البابا فرانسيس والإمام السيستاني، عبر في جانب منه عن أبعاد ودلالات اجتماع زعامتين روحيتين عالميتين في مدينة النجف الأشرف، التي تمثل مركزًا دينيًا عالميًا متميزًا، حيث المرجعية الدينية والحوزة العلمية ومرقد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وفي جانب آخر منه، عكس طبيعة ومضمون وماهية الرسائل التي انطلقت من ذلك اللقاء التاريخي، وهي رسائل عميقة للغاية، أشّرت إلى إشكاليات الواقع القائم، والأخطاء والانحرافات الفاضحة والمؤلمة فيه، والتي تجلت وتبلورت عبر مظاهر الظلم والطغيان والاستبداد والفقر والحرمان والاضطهاد ضد العديد من الأمم والشعوب المسلمة.
فقد تطرق المرجع السيستاني الى ما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الاساسية وغياب العدالة الاجتماعية، لا سيما بعض شعوب المنطقة التي ترزح تحت نير الحروب والعنف والارهاب والحصار الاقتصادي وعمليات التهجير، ومن بينها الشعب الفلسطيني. وهذه اشارة واضحة من المرجع السيستاني لرفض الاحتلال الصهيوني لفلسطين ورفض مشاريع التطبيع معه، ودعوة زعيم الفاتيكان الى تبني مواقف قوية وحازمة بهذا الخصوص، من خلال تأكيده على الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة لوضع حد لهذه المآسي والويلات، فضلًا عن التأكيد والتشديد على قيام القوى الدولية الكبرى بتغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب والعدوان، وعدم التوسع في رعاية مصالحها الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة.
ولا شك أن آية الله العظمى السيد السيستاني، شخص مكامن الخلل والضعف في منظومة العلاقات الدولية، وحقيقة الأسباب والعوامل والأطراف التي تقف وراء مختلف المشاكل والأزمات التي تئن تحت وطأتها الكثير من الدول والشعوب، وهي غير مقتصرة على المسيحيين كأقليات في الدول ذات الأغلبية المسلمة، وإنما في جانب كبير منها تطال المسلمين في مجتمعاتهم الكبيرة، وكمكونات وجاليات في الدول غير المسلمة. ولعل الشواهد على ذلك كثيرة جدًا، من الماضي البعيد والماضي القريب، وكذلك من الواقع الراهن، فمآسي المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفو ما زالت حاضرة في الأذهان، ومآسي المسلمين في ميانمار الذين لم تجف دماؤهم بعد، وغيرها ربما الكثير، ناهيك عن انتهاك الحريات الفردية والإساءة الى مقدسات المسلمين من قبل العديد من الأوساط السياسية والمحافل الفكرية ووسائل الاعلام في العالم الغربي، التي تتطلب مواقف رفض وادانة واضحة من قبل الزعامات الدينية المسيحية، كما تتعاطى الزعامات الدينية المسلمة ايجابيًا مع الانتهاكات التي يتعرض لها المسيحيون وأبناء الديانات الأخرى، وهو ما أشير إليه في بيان الفاتيكان حول لقاء البابا بالمرجع السيستاني، بالقول "إن اللقاء مثل فرصة للبابا لتقديم الشكر إلى آية الله العظمى السيستاني لأنه رفع صوته مع الطائفة الشيعية في مواجهة العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الأخيرة، دفاعًا عن الأضعف والأكثر اضطهادًا، مؤكدين قدسية الحياة البشرية وأهمية وحدة الشعب العراقي".
وفي واقع الأمر لا يحتاج تطبيق قيم التسامح والتعايش، وتكريس مبادئ الحق والعدل، ومواجهة الظلم والاستبداد الى الاستغراق بعقد المؤتمرات، وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات، وتوقيع الوثائق والمواثيق، بقدر ما تتطلب نوايا حسنة وإرادات جادة ومواقف شجاعة، تشخص الخلل والخطأ، وتقف بوجه الظالم وتنصف المظلوم، أيًا كان الدين والمعتقد والمذهب والعرق والقومية.