سر أنيس النقاش: عقيدة فلسطين
شارل ابي نادر
رحل المناضل المقاوم أنيس النقاش نتيجة إصابته بفيروس كورونا، الفيروس الغريب الذي أذاق العالم الأمرّين بعد أن عجزت (حتى الآن) البشرية عن مواجهته بفعالية، وشأنه شأن أغلب ضحايا الفيروس، أسلم أنيس الروح بسرعة قياسية بعد إصابته، وبعد مسيرة طويلة من المقاومة والنضال في سبيل الحق والعدالة، وفي أصعب وأقسى المواجهات.
لم أعرف فقيدنا الغالي إلا حديثًا وفي السنوات الأخيرة بعد تقاعدي من الجيش ودخولي معترك الإعلام، وتحديدًا خلال مواكبتي الإعلامية لمعركة المحيط ولبنان ضد الإرهاب التكفيري، وطبعًا للمعركة الأساس القائمة والمستمرة، ضد العدو الاسرائيلي.
كنت ألتقي بالراحل العزيز في مناسبات إعلامية بأغلبها، أثناء بعض الاستضافات المشتركة معه على قنوات تلفزيونية محلية أو خارجية، أو أثناء ندوات ومؤتمرات خاصة لتوقيع كتب أو لدعم موضوع معين أو للإضاءة على آخر، وبطبيعة هذه المناسبات وخصوصيتها، لم يكن الوقت يسمح للحوار الكافي مع العزيز الراحل، حيث كان لدي الكثير لكي اسأله عنه، وكان أيضًا لدي الكثير لأبحث عنه محاولًا استنتاجه من الحوار معه.
صدقًا، كنت دائمًا أتمنى أن أتواجد معه في تلك المناسبات، لا بل كنت أسعى دائمًا للتواجد في المناسبات التي يكون مدعوًا اليها، وذلك طمعًا بالحصول على إجابات للكثير من التساؤلات التي خُلقت في ذهني عند متابعاتي لتحليلاته ولقراءاته العسكرية والسياسية والإستراتيجية.
طبعًا، لناحية النظرة أو التوجه أو أسلوب وطريقة تحليله للأحداث، كنت أحصل على ما أريد من خلال متابعاتي بشكل دائم تقريبًا لمشاركاته الإعلامية، مباشرة وإذا لم يسمح الوقت، لاحقًا عبر التسجيلات المختلفة وخاصة عبر "يوتيوب"، فكنت أحصل خلال متابعته على ما أريد من خبرته ومن تجاربه، العسكرية أو الأمنية أو السياسية أو الإعلامية، نظرًا لما يملكه من معلومات غزيرة ومؤثرة، وكونه كان يحمل في ذاكرته وفي جعبته كمًّا هائلًا من الأحداث التي عايشها وواكبها.
لكن هذا لم يكن كافيًا لي، بالرغم من غناه؛ ما كنت أبحث عنه أو أطمع بالحصول عليه من فقيدنا الغالي، كان أبعد من تلك التحليلات والقراءات، والتي كما أسلفت، كنت أحصل عليها من متابعته إعلاميًا، كنت أبحث عن سر هذه الثقافة الواسعة في البعدين العسكري والإستراتيجي، والتي يملكها ويعبر عنها عند تقييمه أو قراءته لأي حدث أو موضوع.
أتساءل دائمًا بيني وبين نفسي عن سر هذه الخبرة العلمية - العسكرية، والتي تظهر في معرفته بالتفصيل الدقيق لقدرات أغلب الأسلحة المتطورة وطريقة عملها وأمكنة استخدامها، وعن طريقة تفكيره التكتيكية في مناورات القتال هجومًا ودفاعًا، في الوقت الذي لم يكن فيه ذا اختصاص عسكري اكتسبه عن طريق الدورات التدريبية، وهي عادة إلزامية للحصول على تلك الخبرات والمعارف، فالأمر يتطلب دراسات واسعة متخصصة، تحتاج وقتًا غير بسيط، ومستوى علميًا فوق العادة أيضًا.
كنت أتساءل دائمًا عن سر هذه النظرة البعيدة في تمييز واختيار الموقف الإستراتيجي الأنسب، لأغلب المواضيع المرتبطة بمحيطنا وبقضايانا، أو بالمواضيع الدولية البعيدة والمؤثرة على قضايانا، حيث كان يملك رؤية صائبة، طالما صحّت وتحققت، وذلك أيضًا، في الوقت الذي كان فيه بعيدًا، دراسة أو حضورًا أو مواكبة، عن مراكز الدراسات والأبحاث الإقليمية أو الدولية المتخصصة والمعروفة بمستواها المتميز، والتي يتطلب امتلاك مستوى قريب من مستوى التحليل لديها، جهودًا مضنية في البحث والتمحيص والدراسة الطويلة الشاقة.
كل هذه التساؤلات والأسرار التي طالما حاولت جاهدًا الوصول الى أجوبة عنها، والتي لفتتني في شخصية ومستوى علم وخبرة وتفكير الراحل أنيس فقيدنا الغالي، اكتشفتها فجأة، وفي إحدى المناسبات الخاصة خلال مشاركتي في ندوة عن حياة وإنجازات القائد الجهادي الكبير الحاج عماد مغنية، كمقاوم مقاتل وكقائد مقاوم، وكانت بمناسبة سنوية لاستشهاده.
حينها، تجمعت في مخيلتي وبسرعة فائقة، كل الأجوبة التي طالما بحثت عنها في شخصية الراحل العزيز أنيس النقاش، وذلك حين ربطت بين شخصيته وشخصية ومسار حياة ونضال الشهيد عماد مغنية، فاكتشفت أن من يعتنق قضية فلسطين أيقونة وعقيدة وهدفًا ورسالة، سيفوز حتمًا، طبعًا غير الشهادة، بتلك الإمكانيات والقدرات والميزات غير العادية، في نظرته البعيدة وفي عمق تفكيره الصحيح وفي ثباته وقوة وقوفه وصموده في أصعب الظروف.
إنه السر الذي وهب الراحل الغالي أنيس النقاش المناضل المقاوم نعمة العلم والخبرة والنظرة الإستراتيجية العميقة.