الثورة الايرانية.. انجازات وفرص من رحم التحديات
عادل الجبوري
كانت الاثنان والأربعون عامًا من عمر الثورة الإسلامية الإيرانية حافلة منذ يومها الأول بالكثير من التحديات والتهديدات الخطيرة التي أريد من ورائها خنق الثورة في المهد وطي صفحتها وإعادة عجلة الزمن الى الوراء، بسيناريو يحمل أوجه شبه مما حصل في التاسع عشر من شهر اب-اغسطس من عام 1953، حينما نجحت أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية والاسرائيلية في الإطاحة بحكومة الزعيم الوطني محمد مصدق وإرجاع الشاه الهارب الى عرش السلطة.
ولعل مصاديق التآمر والعدوان، كانت واضحة وشاخصة الى حد كبير، حيث اتخذت أبعادًا ومظاهر سياسية وعسكرية وأمنية وإعلامية واجتماعية ودينية، وفي ذلك يشير السياسي والباحث العراقي الدكتور أكرم الحكيم في دراسة له تحت عنوان "الخطط والسياسات التي اعتمدتها الولايات المتحدة في مواجهة الثورة الشعبية الاسلامية في ايران"، الى أن "السياسات الأمريكية تراوحت بين دعم عمليات اغتيال قادة الثورة، خاصة بعد فشل محاولة اختراقها (بدأت التصفيات الكبيرة لقادة الثورة بعد هروب الرئيس الأول للجمهورية أبو الحسن بني صدر وافتضاح الدور الحقيقي لمنظمة مجاهدي خلق وفرزها بشكل كامل عن جسم الثورة والنظام)، مرورًا بالعمليات العسكرية الخاصة (طبس)، ثم سياسة تطويق إيران بأنظمة معادية لتحجيم النظام الجديد تمهيدًا لإسقاطه، حيث تم تنفيذ انقلابات عسكرية في عام 1979م في تركيا وباكستان (الانقلاب العسكري ضد الرئيس ذو الفقار علي بوتو والمجيء برجل السعودية وأمريكا ضياء الحق)، والعراق (إزاحة البكر والمجيء بصدام)، ودعم النظام البعثي في بغداد لشن الحرب العدوانية الشاملة على إيران لإسقاط النظام الإسلامي في طهران أو احتلال مناطق النفط في الجنوب على الأقل، وتحشيد دعم الحكومات العربية الرجعية في الخليج والمنطقة لدعم صدام في الحرب، ومرورًا أيضًا بالحصار الاقتصادي والحرب النفسية والإعلامية، وإثارة الصراعات المذهبية والقومية وتأجيجها في الدول العربية والإسلامية (سنّة وشيعة وعرب وفرس) لمنع تفاعل شعوبها مع الثورة ونظامها السياسي الجديد في ايران، إضافة الى محاولة خلق الفتن الداخلية في أوساط القوميات الإيرانية المتنوعة وتأجيج دعوات الانفصال (العرب في خوزستان والكرد في كردستان والترك في آذربيجان والبلوش في بلوشستان)، ودعم المجموعات الإرهابية الإيرانية، مثل منظمة مجاهدي خلق ماديًا وتسليحيًا وسياسيًا، وليس آخرها السعي لتعبئة دول المنطقة لدعم حرب أخرى ضد إيران".
في مقابل ذلك، فإن إيران نجحت في مختلف مراحلها بمواجهة التهديدات والتحديات وتحويلها الى فرص وآفاق للتقدم والنهوض في شتى الجوانب والمجالات، وبالتالي المحافظة على الثورة وبناء الدولة وفقًا لقيم الثورة ومبادئها.
وفي الإطار العام، يمكن الإشارة الى أربع ملاحظات أو نقاط جوهرية، تتمثل بما يلي:
أولًا: إن إيران استطاعت مواجهة وتجاوز تحديات كبيرة وخطيرة طيلة عقودها الأربعة، وتمكنت من البقاء والصمود، وأكثر من ذلك، التحول الى قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة ليس في محيطها الإقليمي فحسب، وإنما في عموم الفضاء الدولي.
ثانيًا: تمكنت من بناء نظام سياسي متميز يختلف في الكثير من خصوصياته وميزاته عن الأنظمة السياسية الأخرى، اقليميًا ودوليًا، بحيث باتت له هوية خاصة.
ثالثًا: نجحت إيران الثورة والدولة في المزاوجة بين آليات ومناهج وسياقات المفاهيم السياسية المعاصرة كالديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير والعمل السياسي من جانب، وبين قيم ومبادئ الدين الإسلامي التي شكلت هويتها الأساسية من جانب آخر.
رابعًا: التوفيق بين الثوابت الوطنية والدينية ومصداقية الشعارات التي رفعتها من جهة، وبين المصالح السياسية والاقتصادية التي يفرض الواقع الاهتمام بها وعدم إهمالها في ظل حقائق ومعطيات إقليمية ودولية لا يحتمل انعزال وانكفاء أيًا من مكوناته من جهة أخرى.
وهذه النقاط الأربع شكلت في واقع الأمر الإطار العام للصورة الكلية التي رسمتها وصاغتها أحداث ووقائع العقود الأربعة من عمر الثورة والدولة.
فبينما لم تكن الثورة الإيرانية قد تجاوزت عامها الأول إلا بأشهر قلائل حتى وجدت نفسها في مواجهة عسكرية طاحنة مع نظام صدام، وبتوجيه وتحريض ودعم وإسناد من أطراف وقوى دولية وإقليمية، توقع الكثيرون أن تطيح تلك المواجهة بالثورة الفتية التي لم تلتقط أنفاسها بعد، ولم تستمكل بناء وضعها الداخلي، ولم تحكم سيطرتها ونفوذها بعد على كل زوايا وتفاصيل المسرح الداخلي، توقع الكثيرون أن تطيح تلك المواجهة بها خلال وقت قصير لا يتعدى بضعة شهور في أقصى التقديرات، وربما لم يدر في خلد أحد أن تلك المواجهة سوف تمتد ثمانية أعوام متواصلة بلا انقطاع.
وفي حين افترض البعض - أو كثير - أن النهاية التي آلت اليها الحرب كانت انتصارًا لنظام صدام وهزيمة للثورة الإيرانية، فإن الواقع لم يكن كذلك بالمرة، لأن الأرقام والمعطيات والحقائق كانت تشير الى عكس ذلك تمامًا.
ولم تنته التحديات بانتهاء الحرب العبثية بل استمرت وتواصلت، واتخذت أشكالًا ومظاهر مختلفة، سرية وعلنية، بل إن نظام صدام نفسه حاول إقحام إيران حينما غزا دولة الكويت في صيف عام 1990، وأراد أن يخلق فتنة ويوسع نطاق الحرب، إلا أنه فشل في ذلك فشلًا ذريعًا، لأن إيران أدركت حقيقة اللعبة وتصرفت بحكمة، وتكرر الأمر في عام 2003، حينما قررت الولايات المتحدة الأميركية شن الحرب وإسقاط نظام صدام.
وفي خضم كل تلك التحديات المختلفة، كانت بنى وهياكل النظام السياسي الإيراني تنضج وتتكامل وتتبلور، فالانتخابات كانت مبدأ أساسيًا وممارسة حقيقية أسهمت في إضفاء الهوية الديمقراطية على النظام، فكانت الاانتخابات الرئاسية والبرلمانية وانتخابات مجلس الخبراء، وانتخابات المجالس البلدية (المحلية)، ولم تعطل ظروف واستحقاقات الحرب ومجمل الظروف والأوضاع الاستثنائية أيًّا منها.
ويمكن للمتابع ملاحظة أن سبعة رؤساء جمهورية تعاقبوا خلال اثنين وأربعين عامًا على إدارة شؤون البلاد عبر الانتخابات، وأن هناك إحدى عشرة دورة لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، بل إنه حتى قائد الثورة يتم اختياره وفق سياقات ديمقراطية دستورية.
وإلى جانب الآليات والسياقات الديمقراطية في تداول السلطة في مختلف المفاصل، وبشتى المستويات، كان هناك الحرص والاهتمام الكبير على المحافظة على الهوية الإسلامية للثورة، التي تم التصويت عليها في استفتاء شعبي عام في وقت مبكر بعد الانتصار، وتم تثبيت ذلك في الدستور.
والمحافظة على الهوية الإسلامية مثل واحد من أبرز وأولى المهام التي وقعت على عاتق المتصدين للأمور، وواحدة من أبرز وأخطر وأصعب التحديات أمامهم. وهنا تجلى واضحًا البعد الثقافي للثورة الى جانب الأبعاد السياسية والعقائدية لها، في كل مفاصل الحراك المجتمعي، مثل المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، ومؤسسات المجتمع المدني على اختلاف توجهاتها واهتمامتها، وفي وسائل الإعلام، فضلًا عن المساجد ومختلف أماكن العبادة.
ولعله لم يكن بعيدًا - أو غائبًا - عن أذهان أصحاب القرار أن تدعيم البناء الداخلي لا يمكن له أن يتم ويتحقق بصورة سليمة من دون التواصل مع بيئة إقليمية ودولية متشابكة المصالح والاتجاهات والأجندات، والتحرك وايجاد مواطئ قدم فيها على ضوء المصالح والأجندات والحسابات الوطنية في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، مع عدم التفريط بالثوابت والمبادئ والمنجزات المتحققة على أرض الواقع.
ولا شك أن الجهورية الإسلامية الإيرانية نجحت الى حد كبير جدًا في بناء علاقات متوازنة مع محيطها الإقليمي رغم أجواء ومناخات الحروب والصراعات الدموية، والضغوطات الاقتصادية وسياسات الحصار الجائرة، وكذلك نجحت في بناء علاقات متوازنة مع مختلف أطراف المجتمع الدولي، لا سيما المهمة منها، كالاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا والصين وغيرها، واضطلعت بأدوار إيجابية في معالجة أزمات ومشكلات غير قليلة، ونجحت في إحباط كثير من المؤامرات والمخططات الهادفة الى زعزعة استقرارها الداخلي، وإقحامها في دوامة صراعات مع هذا الطرف أو ذاك لإضعاف قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
وبما أن إيران باتت اليوم تقف في مقدمة قوى محور المقاومة، وتعد رأس الرمح الموجه لواشنطن و"تل ابيب"، فإن من يتابع ويدقق في طبيعة وجوهر ومضمون السياسات الأميركية الغربية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الوقت الحاضر، يجدها لا تختلف عن سياساتها قبل أربعة عقود دون أن تجني شيئًا، رغم تعاقب العديد من الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على البيت الأبيض.