الكابوس الإسرائيلي: انكشاف استراتيجي
إيهاب شوقي
على مدى أثر من قرن، ومنذ وعد بلفور المشؤوم، مرورًا بالنكبة واعلان الدولة الصهيونية المزعومة، ووصولًا الى الوضع الراهن، والعدو الاسرائيلي يعرف جيدًا أن بقاءه يتوقف على أعمدة رئيسية، أهمها ضعف المحيط العربي أو بلغة الخطط "الطوق النظيف"، ثم التفوق النوعي وخلق حالة من الرعب، ثم الاستناد الى قوة عظمى استعمارية تمثل لها كيانًا وظيفيًا وذراعًا متقدمة لضمان هذا التفوق وبالأحرى ضمان البقاء.
والملاحِظ للتاريخ، يرى أن العدو الاسرائيلي يحاول دومًا حصر العداء في جبهات محددة، فلا يفتح جبهة اقليمية وسط صراعه مع العرب، فقد وفرت الظروف له علاقات تحالفية مع ايران الشاه، وتركيا وسط صراعه مع العرب ابان المد التحرري.
كما استطاع تحييد الاتحاد السوفياتي الى حد كبير وسط انضمامه العملي والصريح للمعسكر الغربي.
وهو ما يفسر اليوم السعي الحثيث لاقامة تحالف معلن مع عرب التطبيع، في صراعه مع محور المقاومة، وهو ما يؤكد مقاربة عدم فتح جبهات مختلفة.
هنا يمكننا الولوج للمعضلة الحقيقية غير المسبوقة للعدو، والمتمثلة في تشقق أعمدته الرئيسية وفشل تحييد الجبهات المختلفة، ويمكننا ايجازها في عدة نقاط:
1- سعى العدو لخلخلة مفهوم الدولة الوطنية كقوام ورديف للجيوش الوطنية في اطار تحقيق التفوق التقليدي من عدة نواح، متمثلة في التفوق التسليحي والنوعي، واضعاف جيوش المحيط العربي، وهو ما لم ينجح بشكل كامل، عبر احتفاظ الجيشين المصري والسوري بالقوة التقليدية رغم تغيرات السياسة بمصر، والحرب الكونية على سوريا.
2- على مستوى الرادع النووي، لا يرى الكيان الاسرائيلي نفسه متفردًا بعد امتلاك الجمهورية الاسلامية التكنولوجيا النووية، ناهيك عن الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
3- على مستوى الطوق النظيف، ورغم ما لحق من تراجع سياسي وانحراف لبوصلة الصراع، الا أن التطور غير التقليدي لنظريات الحرب والدخول لأجيال جديدة مثل الحرب غير المتوازية مع المقاومة، جعل العدو محاطًا بفصائل للمقاومة في فلسطين، وشوكة كبيرة في حلقه متمثلة في المقاومة الاسلامية بلبنان، اضافة الى وجود بلد بحجم سوريا في حالة حرب حقيقية وعدم اعتراف وعدم خروج من الصراع الرئيسي وبصدد تحالف وثيق مع فصائل المقاومة، والأهم أنها ركن ركين في محور المقاومة.
4- رغم محاولة تحييد روسيا كوريث شرعي لقوة الاتحاد السوفياتي، ورغم الاحتفاظ بعلاقات مع تركيا، ورغم محاولة تسجيل النقاط بالايحاء بخرق استراتيجي متمثل في التطبيع مع بعض العرب، الا أن العدو يعي جيدًا أنها نقاط شكلية لا تمثل فتحًا استراتيجيًا، باعتبار العلاقات القديمة مع أنظمة الخليج بما فيها السعودية التي لم تعلن رسميًا بعد التطبيع والتنسيق والتحالف، وكذلك النظام المغربي المتعاون مع العدو منذ ستينيات القرن الماضي عبر تسريب جلسات القمة العربية وما خفي ربما كان أعظم.
وأيضًا باعتبار وجود جبهة مفتوحة مع ايران كقوة اقليمية عظمى، وهو ما يفشل تحديد الجبهات، حيث الجبهات ممتدة مع محور المقاومة، اقليميًا وفي المحيط الحيوي المباشر مع دولة الكيان.
5- تراجع القوة العظمى الأميركية وتراجع تفوقها النوعي وبروز قوى منافسة رادعة، اضافة الى نزول أمريكا بنفسها الى الملعب الاقليمي لفشل الوكلاء في مواجهة وحصار المقاومة، وفشل أمريكا في كسر ارادة المقاومة، هو عامل احباط للكيان، باعتبار امريكا كانت فزاعة استراتيجية لأعداء الكيان، وكان نزولها الى الملعب الاقليمي، رعبًا مدخرًا، أثبتت المقاومة بشجاعة استعدادها لمواجهته عبر ترتيبات واستعدادات وتسليح عملي يعي العدو ومن ورائه أمريكا أنها ليست شعارات.
اذا أضيفت هذه الاعتبارات الى الوضع الداخلي الصهيوني وأزمته السياسية، فإننا أمام انكشاف استراتيجي غير مسبوق، يجد معه العدو نفسه غير قادر على الصبر على بقاء الوضع الراهن وتطوره، حيث منحنى المقاومة في تصاعد، وغير قادر على المواجهة الصريحة والجادة لوعيه بقوة المقاومة النوعية، المتمثلة في صلابة ارادة القتال وعقيدة المقاومة ومفاجآتها، ناهيك عن تطورها التكنولوجي.
هي معضلة حقيقية لا يحلها ارتهان بعض الأنظمة العربية وضعفها وخيانة البعض الآخر علنا، ولا تحلها سياسات أمريكا الخرقاء أو الاحتوائية مع تبدل الوجوه.
وهي معضلة قد تقود الى مواجهة مرتقبة ليست ببعيدة بسبب التخبط الصهيوني القابل للانزلاق.
باختصار شديد، فإن المستوى التقليدي المتمثل في سلامة قوام الجيوش التقليدية، وغير التقليدي المتمثل في عدم خلو جبهات الطوق الاسرائيلي من فصائل المقاومة، وفي ظل عدم خلو الامة من الشرفاء، فإن الكابوس الصهيوني مستمر والكيان الى زوال، وخياراته جميعا تقود لهذا الزوال سواء خيار الصمت الذي لا يطيقه، أو خيار المواجهة الصريحة التي لا يجرؤ على الاقدام عليها.