عمّ تبحث انقرة في بغداد؟
عادل الجبوري
في الثالث عشر من شهر آب/اغسطس من العام الماضي، كان مقررا ان يقوم وزير الدفاع التركي خلوصي اكار بزيارة رسمية للعراق للتباحث مع كبار المسؤولين العراقيين حول جملة قضايا وملفات امنية بالدرجة الاساس، تشكل محور اهتمام الطرفين، الا ان الحكومة العراقية بادرت في اللحظات الاخيرة الى الغاء الزيارة على خلفية مقتل عدد من الجنود والضباط العراقيين جراء عمليات عسكرية نفذها الجيش التركي في الاراضي العراقية تحت ذريعة مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(PKK).
والان، وبعد اكثر من خمسة شهور من الاخذ والرد، جاء اكار الى بغداد على رأس وفد رفيع ضم رئيس هيئة اركان الجيش التركي الجنرال يشار اوغلو وقادة عسكريين كبارا اخرين، حيث عقد الوزير التركي لقاءات مفصلة مع نظيره العراقي الوزير جمعة عناد ، ومع رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي.
وبحسب المصادر الرسمية في كل من بغداد وانقرة، تمحورت المباحثات الرسمية، حول التعاون الأمني والعسكري ومكافحة الإرهاب بين الطرفين، وهي اشارة واضحة جدا الى حزب العمال وتبعات واثار ومخاطر تواجده وتمركزه في مساحات من شمال العراق، وتحديدا ضمن حدود اقليم كردستان، الذي يتمتع بإدارة ذاتية شبه مستقلة.
وفي هذا الشأن صرح وزير الدفاع التركي فور وصوله الى بغداد، بأن "أنقرة تحترم وحدة العراق وسيادة أراضيه، بيد ان الارهاب في شمال العراق يمثل تهديدا للبلدين، وان التعاون والتنسيق يلعبان دورا مهما في مكافحة التنظيم الإرهابي حزب العمال الكردستاني".
وبما ان زيارة وزير الدفاع التركي لبغداد جاءت بعد شهر واحد من زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لانقرة، فإنه من الطبيعي ان تكون زيارة الكاظمي قد ازالت بعضا من سوء الفهم وتكدر الاجواء، وبالتلي مهدت الارضيات لزيارة اكار، لا سيما وان الكاظمي حظي والوفد المرافق بحفاوة بالغة من قبل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وتلقى وعودا بدعم مالي سخي من انقرة.
لا شك انه مهما كانت الاجواء ايجابية، وافاق التفاهم واسعة ورحبة بين بغداد وانقرة، والمصالح عميقة، فإن هناك حقائق لا بد من اخذها بعين الاعتبار، ولعل بعضا منها، كنا قد اشرنا اليه وتناولناه في مقالات سابقة، منها (العلاقات التركية - العراقية تحت المجهر.. هل تثمر زيارة الكاظمي لأنقرة؟).
من هذه الحقائق، ان ملف حزب الـ(PKK)، يعد ملفا شائكا ومعقدا، وخيوط التحكم به خارج قدرة الحكومة العراقية حتى وان كانت قوية ومؤثرة، وكذلك خارج قدرة الاحزاب والقوى الكردية العراقية التي ترتبط بعلاقات جيدة مع انقرة، كما هو الحال مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، حيث ان حزب العمال تمكن خلال الاعوام الستة الاخيرة من التمدد والانتشار في بعض مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي دون ان يفعل الاخير شيئا.
والحقيقة الاخرى، تتمثل في ان التداخل والتشابك بين الملفات الامنية والاقتصادية والمائية، غالبا ما يصعب حلها او حتى حلحلتها، والدليل على ذلك، ما زال ملف المياه بين بغداد وانقرة، على حاله، رغم تشكيل الكثير من اللجان، ورغم انه كان يتصدر معظم الاجتماعات واللقاءات عالية المستوى طيلة الاعوام الاخيرة المنصرمة، واخرها اجتماعات الكاظمي مع اردوغان في انقرة منتصف شهر كانون الاول/ ديسمبر الماضي.
إلى جانب ذلك، فإن لتركيا منافسين وخصوما في مختلف الساحات التي تنشط وتتواجد فيها او التي تتطلع للوصول اليها والحصول على مواطئ قدم فيها، ولعل العراق من بين ابرز الساحات التي يتجلى التنافس والتدافع بين عدد من الاطراف فيه، وتركيا احد تلك الاطراف، من اجل الحصول على مكاسب وامتيازات سياسية وامنية واقتصادية واستراتيجية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فازت شركة Aeroports de Paris Ingenierie الفرنسية مؤخرا بمشروع اعادة اعمار مطار الموصل على حساب شركة تركية، في أحدث صراع بين البلدين على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثلما عبّر بعض الساسة والمراقبين.
وقد كانت تركيا تتطلع الى ذلك المشروع بفارغ الصبر منذ عام 2019، كجزء من خططها الطموحة للمشاركة بشكل كبير في إعادة إعمار العراق، بعد سيطرة تنظيم داعش الارهابي على عدد من المدن العراقية، من بينها الموصل، وكذلك كجزء من طموحاتها وخططها التوسعية، لا سيما وان هناك ارثا تاريخيا يربطها بالعراق.
ويبدو ان الاتراك اطمأنوا كثيرا، بحصولهم على صفقة مشروع تطوير مطار الموصل بعد التطمينات التي سمعوها من الكاظمي في انقرة، ولم يتوقعوا ان تأتي الامور على العكس من ذلك، وما زاد من استياء صناع القرار السياسي التركي، هو ان الصفقة رست على خصومهم الفرنسيين وليس غيرهم.
قد يكون التنافس والسعي للحصول على مشروع اعمار مطار الموصل، نزرا يسيرا جدا من طبيعة الحراك والتوسع التركي بمختلف الاتجاهات، الذي ادى بالتالي الى تصاعد حدة ووتيرة الخلافات عموديا وافقيا بين انقرة والاخرين، وهو ما يعني بصورة او بأخرى بقاء الملفات والقضايا الخلافية مفتوحة، لا سيما ملف امني كبير وخطير كملف حزب العمال الكردستاني، لان خصوم انقرة ومنافسيها، من الطبيعي ان يتوجهوا الى تقديم المزيد من الدعم والاسناد للاخير من اجل اشغالها واستنزافها بأقصى قدر ممكن، ناهيك عن ان هناك اصواتا داخلية ترتفع وتعلو بين الفينة والاخرى من قوى سياسية معارضة وبعض اوساط الشارع التركي، وتطالب بضرورة ايجاد سبل ووسائل اكثر عملانية واقل كلفة وخطرا للتعاطي مع حزب الـ(PKK)، لا سيما وان تجربة العشرين او الثلاثين عاما الماضية اثبتت بما لا يقبل النقاش، فشل الحكومة التركية في تحجيم الحزب ناهيك عن القضاء عليه بالكامل، رغم ان زعيمه الاول عبد الله اوجلان يقبع في سجن انفرادي منذ عام 1999 بجزيرة امرالي وسط بحر مرمرة.
من حق تركيا ان تبحث حماية امنها القومي وصيانة نظامها السياسي، بصرف النظر عن ايجابياته وسلبياته، صوابه وخطإه، بيد ان ما تبحث عنه من الصعب جدا ان تجده في بغداد الان، مثلما لم تجده قبل ذلك، سواء جاء وزير الدفاع خلوصي اكار او رئيس المخابرات هاكان فيدان، او حتى الرئيس اردوغان نفسه.