هل تكبح أحداث واشنطن جماح التخريب الأميركي في العالم؟
شارل ابي نادر
قد يمضي وقتٌ طويلٌ لكي تستطيع الولايات المتحدة الأميركية الخروج من تأثيرات الأحداث الأخيرة في واشنطن، والتي جرت على خلفية نتائج الانتخابات الرئاسية وخسارة الرئيس ترامب فيها. وربما لن تستطيع الخروج والعودة الى وضعها كما كان قبل هذه الأحداث، لأن تداعيات ما حصل لن تنتهي بمجرد انتهاء الحدث وتداعياته، عبر توقيف المخلّين بالأمن أو الذين تهجموا على مبنى الكونغرس، بل حساسية وخطورة الموضوع، أن تداعياته مرتبطة بانكشاف نهج وتفكير كان مخفيًا، تقوده وتحمله حركات ومنظمات شعبية، تروّج لايديولوجيا متطرفة ذات طابع عنصري.
لقد انكشف المجتمع الأميركي وبما لا يقبل الشك، على أنه مجتمع عنصري، هش، متطرف، غير ديموقراطي، تسيّره وتوجِّهه نزعات ايديولوجية غير سوية، مر عليها الزمن وأصبحت لدى أغلب المجتمعات الأخرى من الماضي البعيد. وفي الوقت الذي كان يُطبع هذا المجتمع بطابع الديمقراطية، ظهر على حقيقته كمجتمع أقرب الى الديكتاتورية، طالما عملت مؤسساته الاعلامية والاجتماعية والقضائية والسياسية على اخفائه.
لقد كشفت هذه الأحداث وتداعياتها التواطؤ بين الأجهزة الأمنية والاستخبارية الأميركية وبين مجموعات المخربين المحسوبين على حزب السلطة الموجودة في البيت الأبيض، وكشفت أيضًا خيوط العلاقة المشبوهة بين الإدارة وبين مؤيديها، على حساب القانون والأنظمة المرعية الاجراء، وكشفت أيضًا نسبة المحسوبيات والفساد وجميع أشكال المخالفات الادارية والسياسية، وخاصة ما ظهر منها في ما تم تسويقه من الاتهامات المتبادلة، عن تزوير الانتخابات في أغلب الولايات.
هذا المستوى من الانكشاف الاداري والسياسي والأمني داخل الولايات المتحدة الأميركية، قد يكون عاديًا أو مالوفًا في مكان ما، إذ ربما تعيشه أغلب الدول وبنسب متفاوتة، وقد يكون مفهومًا ومقبولًا في بلد يعيش فيه خليط واسع من جنسيات وأصول مختلفة، متعددة الثقافات، متناقضة في الاتجاهات الفكرية، متفاوتة في المستوى الاجتماعي ومختلفة في الانتماء الديني.
ولكن ما هو غير مفهوم وغير مقبول، هو أن يكون هذا التوصيف الحقيقي لمجتمع مثل مجتمع الولايات المتحدة الاميركية، وهي الدولة العظمى، صاحبة الـ 800 قاعدة عسكرية خارج حدودها، وصاحبة الباع الطويل بالتدخل المباشر في الشؤون الداخلية، السياسية والأمنية والفكرية والثقافية، لكوكبة واسعة من الدول، تتجاوز المئات ربما، تُنَظّر في الديمقراطية، وتزايد في ضرورة احترام حرية المعتقدات والآراء وحقوق الانسان، وتحاضر في أصول عمل الادارات والسلطات والحكومات.
والغريب أيضًا، والذي يدعو للدهشة وللتعجب، أن هذه التوصيفات التي ظهر فيها المجتمع الأميركي على حقيقته الخادعة، طالما استغلتها الإدارات الأميركية في الدول التي تتدخل فيها، وعملت بكافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من تدخلات سياسية أو ضغوط اقتصادية وديبلوماسية أو حتى عسكرية في أحيان كثيرة، لفرض معالجتها والتخلص منها، مستغلة وجود هذه التوصيفات في بعض الدول، والتي كانت تحرّض في الخفاء على اعتمادها، وتحمي تحت الطاولة من يقوم بها، للضغط وتغيير أنظمة الحكم فيها، وفرض أنظمة وحكومات مرتهنة لها، بحجة الديمقراطية ومحاربة الفساد وتنقية الأجهزة الأمنية والعسكرية والإدارية وتحسين مستوى عملها وادارتها لمسؤولياتها.
كثيرة هي الأمثلة عن التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية للدول، حيث وصلت أذرع وبصمات مبعوثيها وسفرائها ومندوبيها، الى مختلف أصقاع العالم، وتحت عناوين براقة ليس أقلها فيما خص منطقتنا، الربيع العربي والشرق الأوسط الجديد، لتقود حول العالم قطارًا من الثورات الملونة المشبوهة والمطعمة بتدخلاتها المدسوسة وبأموالها المسمومة.
دعمت واشنطن وبكل قوتها وامكانياتها الحربَ الكونية على سوريا، لتغيير النظام واسقاط الرئيس الأسد، بحجة نشر الديمقراطية وحماية حقوق المواطنين السوريين، فأدخلت هذه الدولة في أتون حرب مدمرة، أصابت الحجر والبشر وهجرت أبناءها، وليتبين أن هدفها فقط هو التخلص من نظام قوي وقف بوجه مؤامراتها ومخططاتها التي قامت بأساسها لخدمة الكيان الصهيوني.
ومارست على الجمهورية الاسلامية في ايران، أكثر أنواع التدخلات والضغوط غير المشروعة واللانسانية، وأيضًا بهدف تغيير النظام والاتيان بسلطة مرتهنة لها، كسلطة الشاه المخلوع، والذي كان وكيلًا لها ولسياساتها في المنطقة.
واحتلت العراق بعد أن سوقت عنه أكبر خدعة في التاريخ بامتلاكه أسلحة دمار شامل، وعملت من خلال هيمنتها عبر وحداتها المحتلة، على ابقائه ضعيفًا وفقيرًا، في الوقت الذي هو فيه من أغنى الدول بالثروات الطبيعية، وعندما حاول أبناؤه الانطلاق في بنائه من جديد بعد انسحابها عام 2003، خلقت "داعش" لتعود من جديد كقوة احتلال فعلية تحت عنوان محاربة الارهاب و"داعش".
وفي لبنان، قادت وتقود كوكبة من الحركات والتجمعات السياسية والاعلامية والفكرية، بعناوين واهية عن الديمقراطية والتعددية وما شابه من عناوين مغرية لمحدودي الرؤية، ليتبين أن مناورتها تقوم بشكل رئيس على اضعاف لبنان من خلال انهاء مقاومته، ودائما خدمة للكيان الصهيوني.
تدخلاتها المعروفة في مروحة من الدول الآسيوية والأوروبية وخاصة الشرقية منها والمتاخمة لروسيا، أو في الدول المتاخمة للصين، ودائما تحت عناوين نشر الديمقراطية وحماية حقوق الانسان، تهدف من ورائها الى نشر الفوضى وتعميم التوتر الأمني والسياسي، لابقاء هذه الدول مشتتة ومرتهنة لسياساتها ولتوجهاتها، والتي تتركز على مواجهة ومقارعة الصين وروسيا.
اليوم، وبعد أن انكشفت الولايات المتحدة الأميركية على حقيقتها، هل ستبقى قادرة على ادارة تلك المناورة المشبوهة في أغلب الدول التي تتدخل فيها، أم أن ما حصل في عاصمتها من دوس على الديمقراطية وحقوق الانسان والتي طالما تغنت بها، سيخلق عند تلك الدول والشعوب المخدوعة حالة من الوعي السياسي والفكري، يجعلها تتصدى وتواجه سياسة الأميركيين الهدامة عبر العالم؟