الديمقراطية العوراء: بين "الربيع" الأميركي والعربي
عبير بسام
صدم العالم بمشهد الهجوم الأميركي - الأميركي على مبنى "الكابيتول"، المقر الرئيسي للسلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك خلال جلسة تصويت الكونغرس على شرعية الانتخابات الأميركية، وعلى شرعية الرئيس الجديد المنتخب جو بايدن. قاد الهجوم على معقل "الديمقراطية الأميركية" المدعاة، رئيسها المنتخب دونالد ترامب بنفسه، من خلال استنفار مناصريه لإيقاف عملية التصويت، متذرعًا باتهامه الديمقراطيين بسرقة الانتخابات.
ما حدث في أمريكا أعاد الى الأذهان بعضًا من صور "الربيع العربي المتنقل"، وظن البعض أن الاميركيين قرروا تجربة ما صنعوه في بلادنا، على نظامهم في الولايات المتحدة الأميركية.
تعبّر أحداث الكونغرس عن واقع البنية الداخلية لأميركا، والتي ستتسبب باهترائها من الداخل. ولكن أكثر ما يلفت هو التوصيف الذي أطلقه الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن في خطاب للأمة الأميركية، أن ما حدث هو: "إرهاب محلي،..وتدنيس لبيت الشعب.. وهو فوضى ولا علاقة له بالتعبير عن الرأي أو التظاهر". إذاً تدنيس المؤسسات الوطنية والاعتداء على أملاك الناس هو غوغائية، فبايدن أسماهم بأنهم مجموعة من الغوغاء "Mobs". وفي هذا الكلام دليل على نظرتهم للأحداث التي تعصف بمنطقتنا العربية بأكثر من ألف عين.
الادارة الأميركية كانت قد وصفت الذين حطموا المباني الحكومية وأشعلوا فيها النار في العديد من البلدان العربية ولا سيما في سوريا بالثوار. وكما قام "الثوار، أو الغوغاء الذين هاجموا الكابيتول في واشنطن"، بمنع المتحدثين فيه من التصويت والعمل على فرض تشريع الرئيس المنتخب القادم، كذلك عرقل "أحرار لبنان" اجتماعات مجلس النواب في لبنان برعاية أميركية وبريطانية وقحة. وفي كل يوم تنتهك نتائج الانتخابات في لبنان من قبل الأميركيين الذين يشككون بشرعيتها بحسب المزاج الأميركي وبعمى يشبه عمى ترامب الخاسر في الانتخابات. اختيار العميى عن أرقام الأميركيين الذين انتخبوا بايدن، لا يختلف عن عمى الإدارات الأميركية عن طابور المنتخبين للرئيس بشار الأسد والذي عبّده السوريون في لبنان من بيروت إلى بعبدا، أو عن الذين انتخبوا نواباً في لبنان يعبرون عن معتقدات الأغلبية بأن "إسرائيل" عدو وتجب حماية من يقاومها.
إن ما سبق يعتبر مؤشراً على الديمقراطية الأميركية العوراء. وأما إذا كنا نتحدث عن مزاج الشعب الأميركي، الذي يمثل "غوغاء" يوم الأربعاء، فنحن نتحدث عن العنصرية المتأصلة لدى حوالي 75 مليوناً الذين انتخبوا ترامب، وخاصة ما بين المجموعات البيض الأنغلوسكسونية. فأمريكا بالنسبة لهذه المجموعة العرقية، أرض الميعاد وهم أسيادها وقد سخرت لهم باقي الشعوب كعبيد.
فأوائل الإيرلنديين الذين جاؤوا إلى أمريكا جلبهم البريطانيون كعبيد لهم. وتم التعامل مع الإيطاليين على أنهم مواطنون من الدرجة الثالثة أو الرابعة. وأما سكان شرق آسيا الأوائل فكانوا بمنزلة أسوأ من العبيد. والأفارقة شحنوا من بلادهم كما البضاعة للسخرة في حقول القطن. وللأسف لم يتجاوز الكثير من الأنغلوساكسون هذه العقلية حتى يومنا هذا، وهذا ما سينفجر ويسبب بتآكل أمريكا من الداخل.
وهي ذاتها الديمقراطية العوراء التي قوضت إرادة الرئيس المنتخب ترامب في نشر الحرس الوطني لإيقاف المتظاهرين بعد مقتل جورج فلويد الأعزل على يد الشرطة في العام الماضي، ونشرته بقرار نائبه مايك بنس من أجل حماية الكابيتول. ليس الأمر أن ترامب هو شخص عاقل أو متزن، ولكن الرئيس في الولايات المتحدة يتمتع بسلطة وصلاحيات واسعة، ويمنحه إياها الدستور الأميركي، وقد قوضت خلال رئاسة ترامب في الداخل الأميركي، في حين أطلقت في السياسة الخارجية المعادية لكل من يقف ضد القرار الأميركي في العالم. وسمح لهذه الديمقراطية منذ الحرب العالمية الأولى أن تهاجم وتغتال وتقود الانقلابات في العالم وتعيد تقسيمه وتوزيعه الديموغرافي كما يحلو لها.
الموقف الأعور ذاته اتخذته الدول الأوروبية والغربية والتي عبرت عن أنّ ما يحدث في أمريكا هو حالة من الغوغائية والفوضى ويتناقض مع الديمقراطية التي أتت ببايدن إلى الحكم. ولكن في الحقيقة فإن هذه الدول مجتمعة لديها هلع من انهيار أميركا في هذه المرحلة التاريخية، فاقتصاديات الدول في حالة شبه انهيار خاصة مع حالة الإغلاق التام التي تعيشها الدول بسبب تفشي الوباء. واليوم انهيار أمريكا يعني حتما انهيار سوق العملات في العالم والتي تعتمد في مبادلاتها التجارية والمالية على أسعار الدولار الأميركي.
واليوم يطالب الإعلام الأميركي بمحاكمة ترامب، وتستقدم "سي ان ان" المحللين القانونيين الذين يفترضون الإجراءات القادمة من أجل عزل ترامب خلال الأيام المتبقية له في الحكم. وهنا يطرح السؤال مجدداً حول دور المؤسسات الدستورية ودور الإعلام في الدول الديمقراطية، حيث بات الحكم على ترامب من خلال الإعلام ومن خلال دعم الجمهوريين الذين صوتوا ضد ترامب في الكابيتول في الأيام الماضية، أو الذين يعملون مع ترامب في البيت الأبيض والذين انهالت استقالاتهم على رأس ترامب لتركه وحيداً ودون دعم لوجستي في أيامه الأخيرة تحضيراً للانقضاض عليه، ومنعه من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أو الظهور الإعلامي فيما الأمر ذاته ميسر لمعارضيه ومناوئيه. وهذا ما يتناقض مع الدستور الأميركي الذي يرعى الحريات، في دولة المؤسسات.
ما يحدث اليوم بغض النظر عما يمثله ترامب من تدنٍّ للأخلاق الأميركية وفضح لعنصريتها "كقائد للديمقراطية في العالم"، يجعل المرء يتساءل حول هذه الديمقراطية التي يحاولون فرضها في العالم عن طريق الإرهاب المتطرف والحروب وحصار الدول الحرة والمستقلة. ما حدث في الولايات المتحدة وردود الفعل التي توالت من الدول الأوروبية، يجعلنا ننظر إلى ما يحدث في الدول العربية وقد أدخلت إليها أعمال الغوغاء والشغب والقتل واستخدام المتطرفين في تقويض سلطات الدول والأمن والإقتصاد فيها باسم الديمقراطية الغربية وبدعم من أنصارها. وهنا يجب القول إن ديمقراطيتهم محض هراء، ومن يسير وراءها هم مهرطقون.