kayhan.ir

رمز الخبر: 124613
تأريخ النشر : 2021January04 - 20:22

سليماني والمهندس وتهديد التفوق الأمريكي


مريم رضا

يعيش محور المقاومة هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لاغتيال القائدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبي مهدي المهندس أثناء خروجهما من مطار بغداد. وإذا ما وضعت العملية في سياقها الصحيح لتبين أن الاغتيال هو بحجم محاولة اغتيال محور المقاومة بأكمله؛ لأن قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإسلامية الحاج سليماني كان قطب رحى محور المقاومة كله، في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن. وعادة، ما يكون الاغتيال عملية منظمة للقضاء على فرد ما هو عدو للطرف الآخر، يكشف زيفه أو ضعفه أو يعرقل مصالحه. وتاليًّا، يشكّل القضاء عليه إخفات النبض وإزالة العراقيل. بيد إن عملية اغتيال القائدين تتميّز بأنها خلاصة استجابة الإمبراطورية الأمريكية على تقهقر تفوقها الحضاري وتَهدّد وجوده بحيث إن قرار الاغتيال كان ضروريًّا لحفظ ما بقي من ماء وجه أمريكا الغارقة في مستنقع حروب غرب آسيا على مدى ما يقارب العقدين من الزمن.

لقد وصف المحللون والساسة الأمريكيون أنفسهم هذه الحروب بأن لا نهاية لها. وقد تعالت صيحات الداخل الأمريكي، في الأروقة السياسية والشعبية، لوقف استنزاف الموارد الأمريكية على مختلف أنواعها على أيدي محور المقاومة. وليس من المبالغة بشيء أن تصنّف عملية الاغتيال بأنها كانت ردًّا على ما ساهم به محور المقاومة من تهديد للتفوق الأمريكي باستنزاف النفوذ الاقتصادي والعسكري والسياسي في حروبهم في منطقة غرب آسيا. إذ بعدما كانت أمريكا، ومنذ نشأتها، تمتهن الحروب السريعة للسيطرة والنهب والهيمنة، أفقدها محور المقاومة هذه الموهبة، بل وأكثر من ذلك ساهم في تصدّع بنيان تفوقها الذي تفرض به الشروط لصالحها على الدول الكبرى، وتستأثر بخيرات وقرارات تلك الصغرى. ويرتكز هذا التحليل على شهادات وخلاصات التقارير والمقالات الأمريكية سواء تلك التي تتناول شخصية القائد سليماني أو حدث الاغتيال بالتحليل، أو التي تكشف ثغرات السياسات الأمريكية في منطقة غرب آسيا، وتداعياتها على التفوق الحضاري الأمريكي.

أدلى وزير الخارجية الأمريكية، مايك بومبيو، في معرض الإجابة عن مساءلة الديمقراطيين عن الضربة التي قد تكلف أمريكا حربًا أخرى لا نهاية لها في الشرق الأوسط، وفقًا لرئيس الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، أدلى بقوله:" الولايات المتحدة واجهت تهديدًا وشيكًا". وقد شارك بعض الخبراء والمحللين السياسيين هذه الرؤية التي تدعم مقولة ما تعنيه العملية من استهداف لتهديد هيبة القيادة الأمريكية وصورة الجندي الأمريكي. فقد كان تسعون بالمائة من عمليات المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في العراق ما بعد 2003 بإدارة الحاج قاسم والحاج أبو مهدي، وبلغ الرقم الإجمالي لقتلى الجيش الأمريكي حتى عام 2008 حوالى 33615 قتيل، حتى تعالت أصوات عديدة من الداخل الأمريكي تطالب بالانسحاب وتعكس صورة الانقسام السياسي والخلافات إلى حد "الشجار" حول كيفية إدارة الأزمة والحرب في العراق. وكشفت دراسة موسعة صادرة عن الجيش الأمريكي بعنوان " الجيش الأمريكي في العراق" الدور البارز المكثف لفيلق القدس في إخراج القوات الأمريكية من العراق.

ومع استمرار عرقلة آلة الهيمنة الأمريكية وتقويض نفوذها الاستراتيجي في المنطقة مقابل نمو النفوذ الاستراتيجي الإيراني، تزايدت حدة تراجع النجاحات الأمريكية وتعزيز نفوذها ومصالحها في المنطقة، بدءًا من العراق (2003)، إلى لبنان (2006)، فسوريا (2011)، ثم اليمن (2015). وهذا المسار التصاعدي لإنجازات محور المقاومة هو ما استهدفه الاغتيال إذ أشار الكاتب تشارلز كريتز في فوكس نيوز الأمريكية في مقاله المعنوَن "ترامب أنقذ حياة الأمريكيين بأمر قتل الجنرال الإيراني سليماني، الخبراء يقولون" إلى أن الضربة العسكرية أنقذت حياة الأمريكيين وحياة حلفاء أمريكا. بهذا المعنى، تكون الضربة وفقًا للكاتب طريقة لحماية حلفاء أمريكا مع التذرع الأمريكي الدائم بالتهديد الإيراني القائم على دول الجوار إقليميًا، وحماية القوات الأمريكية في العراق وسوريا، أي إن الاغتيال وفقًا لترامب طريقة للقضاء على تهديد القائدين للنفوذ والمصالح الأمريكية والهيبة الأمريكية في المنطقة.

ما كان رد القائد سليماني في تموز 2018 على ترامب بالجواب القابل للنسيان، البتّة. يومذاك، بعد أن حذر ترامب الرئيس الإيراني من تهديد الولايات المتحدة، أعلن اللواء سليماني في خطاب ألقاه في غرب إيران: "يحط من كرامة رئيسنا الرد عليك". "أنا، كجندي، أرد عليك". وكان قد حذّر رئيس أمريكا بقوله: "نحن قريبون منك، حيث لا يمكنك حتى أن تتخيل". هذه القوة في مواجهة الإمبراطورية الأمريكية، دفعت رئيس المخابرات بمجلس النواب، آدم شيف، للتعليق بعد ساعات من الضربة على التويتر: "... العالم سيكون أفضل بدونه". "لكن الكونغرس لم يأذن والشعب الأمريكي لا يريد حربًا مع إيران...". الأمر الذي أكدته رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي رأت في بيان لها أن "أمريكا ـ والعالم ـ لا يمكنهم تحمل تصاعد التوترات إلى نقطة اللاعودة".

إذًا، بالنسبة للولايات المتحدة فإن القائد سليماني يتهدّد العالم، أي العالم وفق المحددات الأمريكية ومعالم مصالحها ومشاريعها. كما تدرك أمريكا الحجم الحقيقي، تمامًا، لتداعيات تلك الضربة لمعرفتها بثقل قائد لواء القدس في محور المقاومة. وفي تلك الليلة، كانت الإدارة الأمريكية تعي حجم تلك التداعيات والاعتبارات، لكن القرار تجاوزها جميعًا، وبات الرئيس ترامب ووزارة الخارجية الأمريكية والجيش، والجميع في تلك اللية في حالة تأهب قصوى، وفقًا لتعبير شون هانيتي لبرنامجه التلفزيوني على قناة فوكس نيوز، مما يعني أن الناتج المتوقع من الضربة بالنسبة للأمريكي، كان يفوق حساسية المخاطر والكلفة العالية.

ويمكن فهم القيمة العملية التي أرادها الأمريكي من عملية الاغتيال من خلال النظرة الأمريكية إلى إنجازات الحاج سليماني. في مقال موسع على موقع نيويوركر الأمريكي، يقع في سبع وعشرين صفحة، بعنوان "القائد الظل" للكاتب ديكستر فيلكنز، صاحب كتاب "الحرب الأبدية"، يحدد فيلكنز مهام القائد سليماني بأنه المشغّل الذي يعيد تشكيل منطقة الشرق الأوسط، ويوجّه الحرب في سوريا. بيد أنه من المهم الالتفات إلى أن تاريخ صدور هذه المقالة هو في عام 2013، أي بعد حرب تموز 2006 الذي كان أحد أهدافه تمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد، وبعد بداية الحرب على سوريا (2011).

بهذا السياق، يتّضح أن محور المقاومة في لبنان الذي أفشل المشروع الأمريكي وقضى على الأهداف العليا للعدوان بمؤازرة ودعم القائد سليماني المتهم بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، كان يحمل البديل المناقض للتشكيل الأمريكي للمنطقة القائم على الفدرلة والتقسيم ونشر الفوضى والحروب. وهذا المحور ذاته هو الذي كان يتصدى للمشروع الأمريكي في سوريا، ويرسم المشهد بعيدًا عن الأجندة الأمريكية. وهذا هو تمامًا ما أرادت أمريكا اغتياله، فقد كان وجود القائد سليماني يعني المزيد من الفشل في منطقة غرب آسيا، والغرق في حروبها.

لقد استطاع محور المقاومة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري توجيه أقصى الضربات للنفوذ الأمريكي في المنطقة مذ احتلت الولايات المتحدة العراق عام 2003، حتى اضطرت إلى التفكر مليًّا بالانكفاء وإيلاء الأهمية لأولوية منافسة القوى العظمى وحل المشكلات والأزمات الداخلية العديدة. دخلت أمريكا تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب" منطقة غرب آسيا بفائض في الميزانية، لكنها غرقت في الإنفاق الدفاعي مع استنزاف الحروب الطويلة ـ التي شنتها على محور المقاومة ـ ميزانياتها مع عدم القدرة الأمريكية على الحسم العسكري. ويقرّ وزير الدفاع الأمريكي السابق، روبرت غيتس، في كتابه "ممارسة السلطة" بتناقص التفوق الأمريكي نتيجة عدم الكفاءة في استخدام السلطة، وعدم التوازن في استخدام النفوذ، كالاعتماد المفرط على العسكرة والإنفاق الدفاعي.

بلغت نسبة الإنفاق العسكري ما يقارب سبعة إلى ثمانية تريليون دولار من الخزينة الأمريكية، فضلًا عن تمويل الدول الأخرى المشاركة بالحرب على المحور. كما تضخّم الدين العام وتفاقم مع تداعيات أزمة "كوفيد_19" على الاقتصاد الأمريكي في السنة الأخيرة الماضية، ووصل إلى 23 تريليون دولار حتى السنة المالية 2019 ـ 2020 ضمنًا. وكانت قد اضطرت أمريكا مع هذه الكلفة المرتفعة دون الفعالية المرجوة إلى سياسة الانكفاء التدريجي من غرب آسيا، وتخفيض الإنفاق العسكري، وتاليًّا الاضطرار للبقاء ضمـن عمليـات المنطقـة الرماديـة لتفادي ارتفاع مخاطر العمل العسكري والتورط في حرب غير محسوبة. كما ساهم استنزاف محور المقاومة للقدرة العسكرية الأمريكية على انهاء الحروب في تقويـض هيبـة القـوة الأمريكيـة القادرة على قيادة العالم وحل مشكلاته، لا سيما مع الصعود الصيني والروسي، وتقهقر عقيدة تفوق التسلح لدى الأمريكي، وتخلف بعض قطاعاته العسكرية.

لقد شكّل فقدان موهبة الفوز بالحروب السريعة، وانتصار قوى المقاومة، وعدم القدرة على الحد من نمو محوره والعجز عن إيقاف البرنامج النووي الإيراني أو حتى كبح نموه وتطور القدرات الصاروخية والنووية، شكلت كلها ضربات متتالية من محور المقاومة وضعت الأمريكي في زاوية الحلبة؛ يحاول الحفاظ على موقعه ونفوذه مع تعدد الساحات واللاعبين وعجزه عن ضبط كامل تحركاتهم أو التحكم بها أو كبحها. وتبدو المعاناة الأمريكية أكثر عمقًا مع صعود القوى المنافسة وتراجع النفوذ الأمريكي الدبلوماسي والقيادي. من هنا، اتسمت السياسة الأمريكية الخارجية تجاه محور المقاومة بالارتباك والتشوش وعدم الوضوح لفقدان الاستراتيجيات المتماسكة، أو هجانة الاستراتيجية عن البيئة المستهدفة، والافتقار إلى الرؤية الأنسب، وتضارب الرؤى حولها.

وعندما لجأ الأمريكي إلى البديل مع الاضطرار إلى الانكفاء من غرب آسيا، كانت مخرجات استثمار الحلفاء والشركاء والوكلاء وأدوات الاختراق الناعم ضعيفة مقارنة بالتفوق الهائل في الموارد وكثافة ابتكار أو تغيير السياسات. فقد استطاع محور المقاومة أن يبطل مفعول الاستراتيجيات الأمريكية بفعل تكثيف الاجراءات المضادة، والجهوزية وحرمان الأمريكي من إنتاج النجاعة والفعالية المطلوبة، لا سيما على مستوى القضاء على روح المقاومة بهدف القضاء على إرادات الشعوب وتفكك بناها الداخلية في الصمود والممانعة. ولعل أوضح الخسائر الأمريكية أنه اضطر إلى الاغتيال العلني وتجاوز كل الدساتير والأعراف القانونية والدولية، وانتهك السيادة العراقية، وكل ذلك لأنه فشل في القضاء على روح المقاومة في الوقت الذي كان فيه محور المقاومة يسقط المعادلات ويلحق الهزيمة تلو الهزيمة بالمشاريع الأمريكية.

بالمحصلة، قصر الأمريكي عن قراءة النهج المقاوم بما جعل سياساته مشوهة ومبتورة، فافتقد معها زمام المبادرة التي سعى للحفاظ عليها في احتواء الدول والأحزاب المناوئة لمشاريعه وأهدافه إبان الحرب الباردة. وغيّر الصبر الاستراتيجي لدى قادة المقاومة، ومنهم الحاج سليماني والحاج المهندس، معادلة موازين القوى لغير الصالح الأمريكي. وقد لعب التعاون الوثيق بين مختلف قيادات محور المقاومة والاستفادة من تجارب دول المحور دورًا بارزًا في توهين المعادلات الأمريكية أو فرضها أو إنتاج الأحداث التي تغير الموازين الكبرى. كما أنشأ محور المقاومة بقيادة الحاج سليماني معادلات عسكرية وسياسية جديدة، استنزفت المشاريع الأمريكية وساهمت في تعجيل نهاية القطبية الآحادية والانهيار الحضاري الأمريكي وأفول الإمبراطورية الأمريكية. ومن منظار التعاون والتنسيق ووحدة مسار المحور والأهداف، قد تصبح إحدى تفسيرات أسباب اغتيال القائدين معًا الأكثر منطقية ووضوحًا ممكنة.