kayhan.ir

رمز الخبر: 124092
تأريخ النشر : 2020December26 - 20:11

كيّ الوعي وإشكاليّة السياسة

سعاده مصطفى أرشيد

عشية مغادرة آخر جندي عثماني مدينة نابلس عام 1918 ودخول طلائع الفرقة الاستراليّة الملحقة بالجيش الإنجليزي للمدينة، كان أكثر ما أرّق وجهاء المدينة، هو احتمال انهيار الثقافة وتواجد المدارس الانجليزية، التي سوف تنشر ثقافتها المنتصرة، لذلك بادر أولئك الوجهاء بجمع التبرّعات فوراً، وباشروا العمل من ساعتهم، لإقامة مدرسة النجاح الوطنية، لتقدّم للطلبة العلوم والمعارف العصرية والحديثة مع المحافظة على الموروث الثقافي، والتي من مناهجها الثقافة الوطنية، وقد استقدموا لهذا الغرض ثلة من المثقفين من دمشق وحلب وبيروت، ليكونوا معلمين ومربّين للطلبة في العلم والمعرفة وفي الأخلاق والانتماء لوطنهم. استقبلت مدرسة النجاح لاحقاً الطلبة من شمال أفريقيا وجزيرة العرب، الذين رغب أهلوهم لأبنائهم أن يتلقوا العلم الحديث من دون مفارقة الموروث الثقافي، الأمر الذي لم يكن متاحاً في المدارس الأجنبية ومدارس الإرساليات التبشيرية، بعد سنة واحدة فقط وفي خريف 1919 كانت المدرسة جاهزة بمبناها الضخم وأقسامها الداخليّة وطواقمها الإدارية والتدريسية لاستقبال الطلبة. هذه المؤسسة كانت قد احتفلت بمئويّتها في العام الماضي وقد أصبحت جامعة النجاح الوطنية، فهل يمتلك أحفاد أولئك الوجهاء الرواد مثل هذه الرؤية بعد قرن من الزمن؟

مارست «إسرائيل» بوعي وإدراك وتخطيط، ما أسميه بعملية كيّ الوعي القومي والعربي، وذلك من خلال تحقيقها انتصارات في حروبها على الأنظمة العربية، اليسارية الثورية منها والمحافظة على حدّ سواء، وتبجّحت بأنها جزيرة الديمقراطية والحرية وسط بحر الاستبداد الشرقيّ، وتفاخرت بمؤسسات الرعاية الصحية والتعليمية والمجتمعية، وقارنت بينها وبين أنظمة أعدائها وخصومها مقارنة لصالحها.

أطلق الرئيس المصري الأسبق أنور السادات على زيارته الدراماتيكية لـ»إسرائيل» عام 1977 اسم (كسر الحاجز النفسيّ) والتي أعقبتها اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية (اتفاقية كامب دافيد)، وأدّت إلى خروج مصر من دائرة الصراع، الأمر الذي أحدث ولا شك ثغرة معادية، ولكن مصر العميقة المجتمعية بقيت على حذرها ورفضها، وبالتالي سادت حالة من السلام البارد بين النظام المصري و»إسرائيل»، وبقيت العلاقة على عدائيتها مع كثير من المؤسسات المجتمعية والدينية وعلى رأسها الكنيسة المرقصية بقيادة البابا شنودة لم تستطع «إسرائيل» أن تتمدّد ثقافياً في مصر وفشلت محاولتها لإنتاج أعمال تلفزيونية فشلاً ذريعاً وكان آخرها مسلسل أم هارون، كما لم تستطع أن ترفع من حرارة تلك العلاقات الباردة حتى عام 1993 عندما انخرط الفلسطيني في لعبة السلام العبثية المسماة أوسلو أو الاتفاق المرحليّ.

لما كانت اتفاقية كامب دافيد بالمعنى الثقافي والمجتمعي ثغرة صغيرة لا تسمح بأكثر من النظر خلالها، مثلت اتفاقية أوسلو انهياراً في الجدار، ونقلت عمليّة كي الوعي التي مارستها «إسرائيل» طويلاً من دون تحقيق نجاحات تذكر، إلى مرحلة متقدّمة وخطيرة، وحرصت على ممارستها أمنياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتربوياً في مناهج التربية والتعليم والثقافة والإعلام والآثار والسياحة وغيرها، وإدراجها صراحة ووقاحة في متن الاتفاقيات الموقعة، ثم على متابعة تنفيذها بدقة.

في اتفاقية طابا التي عرفت باسم «أوسلو 2» عام 1995 وفي الفصل الرابع مادة 22، يرد على أن يقوم كلّ طرف من طرفي الاتفاقية بالعمل على تعزيز التفاهم وقيم التسامح والامتناع عن التحريض، وعلى عدم إطلاق دعاية عدائية، وعلى أن تساهم برامج وأنظمة التعليم في تعزيز السلام – بالطبع وعلى أرض الواقع بتبني الرواية (الإسرائيلية)، والشرط ملزم في تطبيقه للفلسطيني دون الإسرائيلي. لاحقاً بعد ثلاث سنوات وقعت اتفاقية «واي ريفير» والتي يصحّ تسميتها «أوسلو 3»، تؤكد الاتفاقية على ضرورة إزالة عناصر التحريض من المناهج الدراسية، وفي نصوص أخرى يشمل ذلك الموسيقى والأناشيد والأغاني والأعمال المسرحيّة والفنيّة من رسم ونحت وتطريز إن كان يتضمّن تحريضاً، أو بالتفسير أن ورد فيه ما يخالف روايتهم، فيما لا زالت الشبيبة والجنود في «إسرائيل» يهتفون الموت للعرب وينشدون: لنهر الأردن ضفتان… الضفة الغربية لنا… أما الضفة الشرقية فهي أيضاً لنا.

هذه الاتفاقات ترافقت مع حالة الضعف والوهن الفلسطيني، الانقسام وسوء الأداء، والاعتماد على المساعدات الغربيّة حتى في صياغة المناهج التربويّة التي أسقطت من الدين آيات الجهاد ومن اللغة العربية أشعار إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود ذات البعد الوطني، وبعضاً من أشعار درويش، ومن الجغرافية جاعلة من الساحل الفلسطيني يمتدّ من غزة حتى العريش، ومن التاريخ ما يغيب النكبة والهجرة وحروبنا ومقاومتنا، أيّ كلّ ما يتوافق مع الاتفاقات الهزيلة ولا يخالف الرواية المعادية التي تشترط الالتزام الفلسطيني بتلك النصوص، لتقديم دعمها، لقد جعلت من اتفاق أوسلو وملحقاته سقفاً ليس سياسياً فحسب وإنما ثقافياً وفنياً ومعرفياً وتربوياً.

إنها طريقة رياضية – حسابية لإعادة صياغة وهندسة وبناء الفلسطيني الجديد ثقافياً، ولما كانت المدخلات الثقافية جوفاء خاطئة ومخادعة فلا بدّ للمخرجات أن تكون أيضاً كذلك، لن يكتفي «الإسرائيلي» بذلك وإنما يسعى للاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة التي تعني الاعتراف بيهودية تاريخ تلك الدولة ويصبح اليهودي مقاتلاً من أجل استرداد حقه وطرد الفلسطيني الغاصب في حرب تحريره لأرضه القومية، وقديماً اشتهر عن رئيسة وزراء (إسرائيلية) سابقة قولها: الآباء سوف يموتون… والأبناء سينسون، لم تفلح مقولتها عندما كانت مدعومة بالقوة العسكرية فلم ينسَ الأبناء ولا أبناؤهم وأحفادهم، فهل ستفلح عملية كيّ الوعي مدعومة بالقوة الناعمة في مظهرها، ولكن اللئيم القاسي في مضمونها، لا مع الفلسطيني فحسب، وإنما بعزلة عن أطواق دعمه وروافده الثقافية، بعد كلّ ما تقدّم فلم يكن مستغرباً أن تقوم دول التطبيع – التحالف الجديد مع «إسرائيل»، بما قام به الفلسطيني.

ما الذي يجري وأيّ جنون هذا… سواء ما جرى في فلسطين أو ما سيجري في المغرب مثلاً، احتفظت نابلس بعلاقة حميمة مع الطلبة المغاربة الذين درسوا في مدارسها وكم حدثني المرحوم رئيس البلدية الأسبق المناضل بسام الشكعة عن حفاوة الاستقبال التي لقيها في المغرب، وكذلك حدثني رئيس بلدية آخر وهو المرحوم حافظ طوقان عن تواصله معهم وعن دفء المحبة والمودة التي بقيت بينهم وبين المدينة وفلسطين، وكان منهم رئيس وزراء أسبق وعدد من الوزراء والنواب وقادة المجتمع، أين هم اليوم؟

أين نابلس اليوم ووجهاؤها من نابلس ووجهائها قبل قرن من الزمن؟