ترامب ينشر الفوضى قبل مغادرة البيت الأبيض
سركيس ابو زيد
عندما قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إقالة وزير الحرب مارك أسبر وإجراء تغييرات عاجلة في قيادات البنتاغون، وعندما قرر إيفاد وزير الخارجية مايك بومبيو الى منطقة الشرق الأوسط في جولة واسعة غير واضحة الأهداف، ساد اعتقاد على نطاق واسع أن هذه الإجراءات غير المألوفة وغير المنطقية في نهاية الولاية الرئاسية تؤشر الى مفاجآت عسكرية وأمنية يعدها ترامب واستلزمت تعيين طاقم موال ومطيع من جهة، ووضع الحلفاء في المنطقة في صورة التطورات الآتية والاستعداد لها من جهة ثانية.
ووصلت التقديرات الى حد الحديث عن اتجاه ترامب الى تصعيد الموقف في الشهرين المقبلين وزرع الفوضى في أيامه الأخيرة، بما في ذلك احتمال إقدام الإدارة الفاقدة صوابها على توجيه ضربات عسكرية لإعادة خلط الأوراق وإضعاف محور إيران في المنطقة.
لكن الأمور سارت في منحى آخر، وتبين أن قرار ترامب الأخير قضى بتسريع الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان إنفاذًا لوعود كان قطعها، مقتنعًا بأن لا مصلحة للولايات المتحدة أن تبقى عسكريا في دول المنطقة وتخوض حروبا فيها.. وهذا التوجه سبق وأن حاول تطبيقه في سوريا عندما أعلن خطة انسحاب من طرف واحد، ما أدى في حينه الى استقالة وزير الحرب جيمس ماتيس.
الواضح أن ترامب مصمم على إعادة القوات الأميركية المتبقية في العراق وأفغانستان وتُقدر ببضعة آلاف (نحو عشرة آلاف جندي في البلدين)، أو على الأقل سحب أكبر عدد ممكن قبل مغادرته منصبه، حتى يضع الوجود الأميركي في العراق وأفغانستان في مسار لا رجوع فيه نحو انسحاب كامل.
الانسحاب من العراق كان يرغب به ترامب منذ البداية، وأجرى في خصوصه مفاوضات جدية مع حكومة حيدر العبادي، ولكنه تراجع حتى لا "يهدي إيران انتصارًا مجانيا". أما الانسحاب من أفغانستان، فكان هدفًا ثابتًا لدى ترامب منذ وصوله الى البيت الأبيض وشروعه في فتح باب المفاوضات مع حركة "طالبان". ويرى الآن أن لا أهمية ولا ضرورة للاتفاق مع طالبان والانسحاب على أساسه، وأن هناك ضرورة لسحب القوات الأميركية من هذا البلد لانتفاء مصالح الولايات المتحدة.
في الشكل، تبدو الانسحابات بمثابة وفاء بوعد التزم ترامب بتحقيقه قبل نهاية السنة، ولكنها في الواقع وفي
المضمون، تعكس رغبة لديه بنشر الفوضى بوجه إدارة بايدن. وليس بايدن وحده من يقلق لخطة تسريع الانسحاب في هذا الوقت، وإنما يشاركه الأوروبيون في هذا القلق. وعلى هامش زيارة وزير الخارجية الأميركية بومبيو الى باريس مؤخرًا، حيث طرح موضوع الانسحاب من العراق وأفغانستان، عبّر الفرنسيون عن مخاوف من إقدام فريق ترامب على اتخاذ قرارات أو تدابير من شأنها تصعيد التوترات والنزاعات، وفرض أمر واقع يصعب على بايدن التراجع عنه. وتتوقع باريس أن تستغل إدارة ترامب فترة الشهرين المتبقيين لها من أجل زيادة الضغوط على طهران، ليس فقط لجهة فرض عقوبات إضافية، وإنما لجهة شن "حرب إلكترونية" على البرنامج النووي الإيراني لإضعافه، أو ضرب منشآت حيوية مباشرة أو بالواسطة، أو استهداف جماعات مرتبطة بإيران في العراق وسوريا.. كذلك من غير المستبعد أن يبادر ترامب الى إعلان خطوات إضافية بشأن الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، مثل الاعتراف بشرعية المستوطنات الإسرائيلية بعد أن تم تجميد الوضع.
من جهة أخرى، زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يمكن وصفها بـ"الاستفزازية" الى تركيا، وأشعلت غضبًا رسميا كونها خلت من أي لقاءات مع المسؤولين في حكومة الرئيس رجب طيب إردوغان، فضلًا عن الرئيس نفسه، وركزت هدفها على ملف حساس في العلاقات بين البلدين هو ملف الحريات الدينية. والتقى الوزير الأميركي برثلماوس الأول، الزعيم الروحي للكنيسة الأرثوذكسية، في مقر البطريركية المسكونية في إسطنبول، ورفض دعوة نظيره التركي مولود جاويش أوغلو التوجه إلى أنقرة للقائه والمسؤولين بالحكومة، ورد جاويش أوغلو برفض مقابلته في إسطنبول.
استبق بومبيو زيارته الى تركيا بتصريحات عنيفة ضد سياسة أردوغان في ختام زيارته الى باريس، وقال بومبيو (في حديث الى صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية): "لقد أمضينا أنا والرئيس ماكرون وقتًا طويلًا في مناقشة الإجراءات التركية الأخيرة، واتفقنا على أنها عدوانية للغاية". وأضاف: "بحثنا أيضًا ما تقوم به تركيا في ليبيا، حيث أدخلت قوات من دول ثالثة"، في إشارة إلى مرتزقة سوريين من المعارضة التي تهيمن عليها أنقرة وأفعالها في شرق البحر المتوسط.
يرى الوزير الأميركي أن تسوية النزاع بين آذربيجان وأرمينيا بشأن قره باغ كان يجب أن تتم في إطار ما يسمى "مجموعة مينسك"، التي تضم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا. لكن الجهتين الفاعلتين كانتا، بلا شك، تركيا وروسيا.
ولا تبدو واشنطن مرتاحة لاتفاق وقف النار الأخير في إقليم ناغورني قرة باغ. الملف التركي، وتحديدًا ما يتعلق بسياسة إردوغان وخططه، كان موقع توافق بين بومبيو وماكرون الذي لمس بارتياح الموقف الأميركي السلبي إزاء أداء تركيا في سوريا والعراق وليبيا ومياه المتوسط الشرقي وداخل الملف الأطلسي. وكان هناك نوع من العتب الفرنسي على واشنطن. ويبدو أن بومبيو سعى إلى تبديد التباعد مع باريس، الأمر الذي انعكس في تصريحات لا سابق لها لجهة حدة الهجوم على أنقرة.
وإذا كان الملف التركي سجل توافقًا، فإن ملفات أخرى خلافية برزت ومنها ثلاثة رئيسية: الأول، يتناول انسحاب القوات الأميركية قبل نهاية العام من أفغانستان. وترى باريس في ذلك هدية تقدم لـ"طالبان" للهيمنة على البلاد وتحويل أفغانستان إلى بؤرة ناسفة للاستقرار. والثاني، الانسحاب من العراق. ووفق القراءة الفرنسية، فإن المستفيد الأول منه ستكون إيران. والثالث، عزم الإدارة الأميركية على تشديد سياسة "الضغوط القصوى" على طهران بفرض عقوبات إضافية. وأتيحت لباريس الفرصة للتعبير مباشرة لبومبيو عن مخاوفها مما ستقدم عليه إدارة ترامب في الأيام المتبقية لها في البيت الأبيض.
السؤال المطروح الآن هو معرفة كيف ستتصرف واشنطن مع إيران، وكيف ستتصرف مع تركيا أيضًا، وما إذا كانت الإدارة الأميركية الحالية ستعمد حقيقة لـ"هز العصا" لتركيا في الوقت القصير المتبقي لها، علما بأن أردوغان لم يتردد يومًا في تحدي واشنطن.. أم أن الأمور ستُترك على حالها بانتظار مجيء إدارة جديدة وتسلم الرئيس المنتخب جو بايدن مسؤولياته الدستورية بحيث يتم رسم سياسة جديدة للتعاطي مع تركيا ومع طموحات رئيسها.