ما وراء قره باغ!
فاديا مطر
فيما يعود الصراع في إقليم ناغورني قره باغ إلى فصل جديد، تتشابك التقاطعات وتمتدّ الاستفهامات إلى ما وراء هذا الصراع في توقيته الحساس وتشابك الأذرع وتباين الخلافات والمصالح في إقليم أقله ما يمكن قوله فيه إنه «الأخطر» في منطقة القوقاز الجنوبي، فلماذا هذه المنطقة ولماذا هذا التوقيت؟
بعد اعتراف الكيان الصهيوني باستقلال أذربيجان في العام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وفتح سفارة له في العام 1993 لغرض التوطيد، تدخل بعض الاستفهامات حيّز الشرح في الصراع الأرميني– الأذري، فتنامي العلاقات الأذرية – «الإسرائيلية» في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري مردّه إلى الاقتراب «الإسرائيلي» من حدود إيران وروسيا واستخدامه كورقة حضور تطلّ على ساحات ساخنة تعتبرها تل أبيب ورقة جيوسياسية مهمة تعزز الحضور «الإسرائيلي» في منطقة القوقاز الجنوبي، وتطفو الرغبة الأذرية في إبقاء أرمينيا على أهبة الخوف من تنامي القوة الأذرية بما يُغيّر قواعد معادلة الصراع، وهو ما يجعل «الدولة المسلمة» الأكثر تقرّباً من تل أبيب ذات أهمية تشاركية تخلط أوراق المنطقة الأوراسية وتضع موطئ قدم «إسرائيلية» في الحديقة الخلفية لكلّ من إيران وروسيا في الوقت الحساس، فضلاً عن الورقة الاقتصادية الهامة التي تعطيها تل أبيب وواشنطن الأهمية الكبرى في دعم الحليف الأوروبي عبر إبقائها في ضفتها السياسية والعسكرية تحت أيّ إحتمال قادم من طهران فيما لو انزاحت القياسات العسكرية في تلك المنطقة نحو حركة ما.
فالورقة الإقتصادية باتت أذرية بامتياز بعدما وصل التبادل العسكري ما بين باكو وتل أبيب الى ٣٨٥ مليون دولار في صفقات الشراء العسكري الأذري من الكيان الصهيوني ما بين العامين 2016-2017 وهو في إزدياد، وذات الورقة يكمن وراءها البقعة التجسّسية القريبة من حدود إيران الشمالية والمطلة على منطقة الحوض الأوراسي وبحر قزوين التي تغذي التواجد الإسرائيلي منذ العام 2012 لربط قواعدها الجوية بشراء موطئ قدم في القوة الجوية الأذربيجانية، مما يرفع مستوى التجسّس على حدود إيران إلى مستويات عالية بحسب ما ذكرته صحيفة «فورين بوليسي» الأميركية منذ العام 2012، وهو ما تعمل عليه واشنطن وتل أبيب بخطى حثيثة خصوصاً بعد وصول المنظومات الروسية «أس 400» الى تركيا ورفض صفقة المنظومات الأميركية «باتريوت»، فلا تزال تركيا القاسم المشترك لتأجيج الصراع في إقليم قره باغ الجبلي في مؤقت زمني هدفت منه واشنطن وتل أبيب إلى إظهار أنقرة شريكاً خفياً في بعض القضايا وعلنياً في الكثير منها، وهي اللاعب في الساحة الأذرية الذي يُعتبر السبابة العسكرية والسياسية التي تحرك منطقة تصفية الحسابات مع روسيا إلى مربع العام 2015 في سورية ومربع 2019 في ليبيا، وهو ما صرح به وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو منذ فترة بأنّ «تركيا تقف إلى جانب أذربيجان سواء في الميدان أو على الطاولة السياسية»، وهو ما ترجمته الشراكة التركية لباكو في التسليح والتدخل المباشر في النزاع مع أرمينيا عبر الطائرات المسيّرة التجسسية والمجموعات الإرهابية القادمة من الشمال السوري والتي تعتبرها تركيا ورقة صالحة في كلّ من ليبيا وسورية، فالدخول الأرهابي على خط القتال في قره باغ حذرت منه كلّ من طهران وموسكو في أنه يعادل التصريحات التركية التي تصبّ الزيت على النار في الإقليم القوقازي، وهو ما تعمل عليه تركيا على خطين أولهما تعزيز دور الطائرات المسيّرة «الدرون» في تغيير ميزان القوة، وثانيهما تقاسم الضغط على موسكو وطهران كشريك استراتيجي مع الكيان الصهيوني في معادلة المواجهة، خصوصاً أنّ أذربيجان وأرمينيا كانتا من دول العضوية في الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما يوصل العتبة الى مرحلة «اللاديبلوماسية» في أذرع الصراع وتقاطع القوى في تلك المنطقة، إذ أنّ اتساع دائرة الخلاف بين موسكو وأنقرة على المستوى الإستراتيجي تزيد من عقدة تشابك أنابيب الطاقة المغذية لأوروبا وموانئ شرق المتوسط والسوق العالمية وهو ما يجعل موازنة المصالح في القوقاز الجنوبي من قبل واشنطن وأنقرة والكيان الصهيوني على حساب الحدائق الخلفية الروسية شرارة الشر التي ستحرق البيدر في منطقة بالغة الأهمية بالنسبة لروسيا، فهي ورقة تطفو الضبابية تركياً على منطقة شرق المتوسط التي تخوض فيها تركيا حرب «قراصنة» على حدود أوروبا البحرية الجنوبية الشرقية وتشهد فيها واشنطن تراجعاً في ملء فراغات القوة لكسب إنقرة في معركة التواجد في الحوض الأوراسي والحدود الشمالية لإيران وفي قلب الحديقة الخلفية لموسكو.
فالإقليم المتنازع عليه منذ أكثر من ربع قرن يفرض نفسه كساحة اشتباك مضافة إلى ساحات آخرى تريد منها واشنطن و»اسرائيل» حقول منطقة «شاه دينيز» في قزوين ومناطق خطوط باكو وتبيليسي وجيهان وباكو – سوبسا التي تُغني أنقرة بمعدل 52% عن نفط روسيا وتسعى من خلال التشابك في قره باغ إلى فرض عثمانية جديدة بدأتها منذ العام 1915 في القرن المنصرم، فهي الباحثة كما البحث الصهيوني والأميركي بشراكة أطلسية عن مكاسب التوسع ووضع قدم دولية خصوصاً ضدّ أوروبا في مرحلة تنامت فيها الخلافات التركية مع الدول الأوروبية على خلفية ليبيا وشرق المتوسط، هذا وتزجّ أنقرة نفسها في عمق معاودة تفعيل معاهدة الأمن الجماعي التي تضمّ دولاً سوفياتية تحت المظلة الروسية العسكرية وتُنصّب نفسها كبديل عن الصراع الروسي–الأميركي للستبداله بصراع روسي – تركي كما فعلت «إسرائيل» في معاهدات التطبيع في الخليج الفارسي التي عبرت فيها تل ابيب الورقة المضافة إلى منطقة القرب من إيران في الخليج الفارسي، فهل الدخول التركي في الصراع الحالي وربما المستقبلي في قره باغ سيقفل أبواب السياسة مع سوتشي وأستانة ويفتح الباب «الغير ديبلوماسي» على مصراعيه في مكان أخطر من إدلب؟
هذا ما عبثت به الأروقة العسكرية الصهيونية والأميركية قبيل الانتحابات الأميركية التي اشتدت عصبيتها في ترقب نتائجها على منطقة طاولات البيت الأبيض القادمة بزمام من سيرث من دونالد ترامب أخطر الملفات الشائكة.