العراق.. مشاهد مرتبكة وصور مضطربة لفترة حرجة
عادل الجبوري
أحداث ووقائع متلاحقة.. مواقف وتوجهات متضاربة.. تحركات بايقاعات متسارعة.. توقعات وقراءات بعضها متفاءلة واكثرها متشائمة..
هكذا هو حال المشهد العراقي العام خلال الشهور الماضية، وانه على ما يبدو سيبقى كذلك لعدة شهور قادمة، ان لم تطرأ متغيرات وتحولات كبرى، يمكن من خلالها تصحيح المسارات الخاطئة ومنع الانزلاق نحو الحافات الحادة.
من الصعب جدا تحديد وحصر خلفيات واسباب هذه المشاهد المرتبكة والصور المضطربة بعوامل صحية فقط، ارتباطا بجائحة كورونا، او بعوامل اقتصادية، مترافقا بالتراجع الحاد في اسعار النفط، او بعوامل سياسية، مترادفا بمظاهر الخلاف والاختلاف والتقاطع بين المكونات السياسية المختلفة، وتأثيرات الوجود الاميركي، بل ان هذه العوامل مجتمعة ساهمت بدرجات متباينة في تشكيل المشاهد المرتبكة والصور المضطربة، بيد ان ما تجدر الاشارة اليه هو ان هناك مفردتان مهمتان تشكلان بؤرة ومركز الحراك القائم، هما "التواجد الاميركي" و"الحشد الشعبي"، وما سواهما من مفردات تتحرك او يتم تحريكها على ايقاع هاتين المفردتين.
بيان الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة الصادر في العاشر من شهر تشرين الاول/ اكتوبر الجاري، اشر الى مجمل الواقع القائم والخيارات المتاحة، وهو في الحقيقة انطوى على رسالة واضحة الى الولايات المتحدة الاميركية، مفادها، ان التوقف عن استهداف الوجود الاميركي في العراق محدد بفترة زمنية وبشروط واشتراطات، متى ما تم نقضها والتنصل عنها، ستعود الامور بأسوأ مما كانت عليه بالنسبة لواشنطن، ولعل الفقرة الاخيرة من البيان تتحدث عن ذلك، اذ جاء فيها "في الوقت الذي نعطي فيه للقوات الأجنبية فرصة مشرُوطة ـ احتراما للجهود الطيبة التي قامت بها بعض الشخصيّات الوطنيّة والسياسيّة ـ بوضعِ جدول زمني "محدود ومُحدد" لتنفيذِ قرارِ الشعب، ومجلسِ النواب والحكومة، القاضي بإخراجِها من البلادِ؛ نحذر الاميركان تحذيرا شديدا من مغبة المراوغة والمماطلة والتسويف في تحقيق مطلب الشعب الأول، وإلا سنضطَر حينها إلى الانتقال إلى مرحلة قتالية متقدمة مستفيدين من إمكانيات المقاومة "كمّا ونوعا" وستدفعون الثمن مضاعفا، وستمرغ أُنوفكم في التراب كما مُرّغَت من قبل وأنتم صاغرون..".
هذا البيان، بدلالاته العميقة، جاء بعد وقت قصير من لقاء المبعوثة الاممية في العراق جينين بلاسخارت رئيس اركان هيئة الحشد الشعبي والقيادي في كتائب حزب الله عبد العزيز المحمداوي المكنى "ابو فدك"، ذلك اللقاء الذي ذهبت العديد من الاوساط الى انه تم بناء على طلب اميركي من بلاسخارت للقيام بوساطة تهدئة استثنائية، بعد فشل كل محاولات واشنطن بأيقاف التهديدات والاستهدافات لوجودها في العراق، والملفت انه بينما تجنبت الجهات الرسمية الاميركية التعليق على ذلك اللقاء، شنت وسائل اعلام اميركية واوساط سياسية عراقية قريبة من واشنطن حملة شديدة ضد المبعوثة الاممية والحشد الشعبي.
ولان الاستراتيجية الاميركية ومن يدور في فلكها من سياسات وتوجهات بعض القوى الاقليمية، تقوم على اساس انهاء الحشد الشعبي، فأنه من المستبعد جدا ان تتعاطى واشنطن بمصداقية مع التزاماتها بالانسحاب من العراق، ولاشك انها لن تغادر نهج المراوغة والتسويف وخلط الاوراق.
وبعد لقاء بلاسخارت برئيس اركان الحشد الشعبي، وصدور بيان الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة، لوحظ تزايد عمليات الاستهداف لتشكيلات الحشد من قبل عصابات داعش الاجرامية في عدة مواقع، وكذلك تصاعد نبرة الحملات الاعلامية والسياسية ضد الحشد في وسائل الاعلام الاميركية والاسرائيلية وبعض وسائل الاعلام العربية، وقد تزامن جزء من هذه الحملات مع الجولة الاوربية الاخيرة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، التي شملت كل من باريس وبرلين ولندن، هذا في الوقت الذي تحدثت اوساط ومحافل سياسية خاصة عن ضغوطات تعرض لها الكاظمي، لاسيما في لندن من جهات قريبة الى واشنطن، لتحجيم الحشد الشعبي وتقليص ما يسمى بالنفوذ الايراني في العراق، وقد نقلت تلك الجهات رسائل الى الكاظمي من واشنطن، تعيد التأكيد بأن المساعدات الاقتصادية وغير الاقتصادية الاميركية للعراق ترتبط بمدى قدرة حكومته على وضع حد للتهديدات المتواصلة للمصالح الاميركية من قبل فصائل المقاومة.
اكثر من ذلك، تنقل بعض تسريبات كواليس لقاءات الكاظمي في لندن، بأنه تلقى عرضا يقوم على مبدأ (الانسحاب مقابل التطبيع)، اي انسحاب واشنطن من العراق في مقابل قيام الاخير بالحذو حذو الامارات العربية المتحدة والبحرين بتطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني، وهو ما روجت اليه منابر سياسية ووسائل اعلامية في الاونة الاخيرة، في سياق حملة مبرمجة ومنسقة تديرها واشنطن وتل ابيب وعواصم اخرى، بحيث انه اذا لم تكن هناك خطوات عملية لها بحكم ظروف الواقع، فهي يمكن ان تكون بمثابة جس نبض يصار من خلالها الى تقييم طبيعة ومستوى ردود الافعال الرسمية والشعبية العراقية.
وفي كل ذلك يبدو العامل ـ او قل الهاجس ـ الاقتصادي حاضرا بقوة، لاسيما مع مؤشرات مقلقة تفيد بعجز الحكومة العراقية عن ادارة الازمة الاقتصادية الخانقة بصورة صحيحة، في ظل تأرجح اسعار النفط عند مستويات منخفظة، واستبعاد انتعاشها على صعيد المدى المنظور، خصوصا مع بقاء جائحة كورونا على حالها في مجمل بقاع العالم، ولاشك ان واشنطن التأثير والضغط على بغداد بواسطة العامل الاقتصادي، لتصل الى بعض من مراميها واهدافها، وهي تتحسس كثيرا من انفتاح العراق على محيطه الاقليمي والفضاء الدولي، لان ذلك يضعف مواقفها ونفوذها ويقلل من الحاجة الى الاعتماد والتعويل عليها.
وطبيعي ان مجمل مجريات الاوضاع في العراق، ومايراد له من قبل الولايات المتحدة وحلفائها واتباعها لايأتي بمعزل عن تفاعلات وتداعيات الوقائع والاحداث في المنطقة والعالم، فالانتخابات الرئاسية الاميركية على الابواب، وهناك قلق كبير في الشارع الاميركي والمحافل السياسية مما يمكن ان تنتهي اليه من فوضى واضطراب سياسي ومجتمعي، وهناك فشل واشنطن في تشديد الضغط على طهران من خلال تمديد فرض حظر بيع الاسلحة لها، وهناك تصاعد وتيرة المواجهة الاميركية الصينية، مع مؤشرات غلبة واضحة لبكين، وهناك تنازلات سعودية في الملف اليمني لصالح حركة انصار الله، وهناك ملفات وقضايا اخرى لاتأتي ايقاعاتها وتفاعلاتها بما تطمح وتتمنى ادارة البيت الابيض.
ومع ان ذلك وغيره يؤشر الى ضعف وتخبط وارتباك واشنطن، ولكن في كل الاحوال يتطلب التعاطي العراقي مع مخططاتها ومشاريعها واجنداتها في العراق مواقف وطنية قوية ومنسجمة، ووضوح في الرؤى والتوجهات، وترتيب صحيح للاولويات.