طوفان بشري في ذكرى زيارة الأربعين
من الأسرار المكنونة في الارتباط والمداومة على زيارة الإمام الحسين(ع) ما دلت عليه الروايات المتواترة والمستفيضة عن أهل البيت (ع) وربطها بظروف زمانية ومكانية خاصة وعامة، بل نقلتها الروايات الصحيحة من الفرض الاستحبابي المؤكد إلى الفرض الكفائي، بل وصل الحال أن يصف الإمام الصادق (ع) زائر الإمام الحسين(ع) لمرة واحدة في سنته بالجافي !!، وممن لم يزره في حياته بمنتقص الدين والإيمان !! وهذا إن دل على أن زيارته غذاء عقائدي وروحي لاغنى للمؤمن في حياته.
صورتان متكاملتان في باطنهما وظاهرهما تبينان رؤية مستقبلية للنبي محمد (ص) في تبيان منزلة الإمام الحسين (ع) منه ودوره الاستثنائي في إبقاء مبادئ الدين الإسلامي، فصورة ظاهرها يصور المعرفة والإيمان بالمصطفى (ص) وباطنها يجسد العمل بمبادئه وأوامره، وصورة أخرى ظاهرها يجسد الإيمان بالإمام الحسين(ع)، وباطنها يمثل السعي لتطبيق مبادئ ثورته، وهما صورتان اختزلهما النبي (ص) بشهادة في حق الإمام الحسين(ع): حسيني مني وأنا من حسين.
من الغايات الجوهرية التي تستخلصها من الروايات الشريفة في فضل زيارة الإمام الحسين(ع) هو تجديد العهد والولاية واختبار لحس الإقدام في طريق أهل البيت(ع) ونصرة معتقداتهم، وهذا ماتنقله نص الزيارة: فقلبي لكم سلم وأمري لأمركم متبع ونصرتي لكم معدة.
إن ديمومة شعائر زيارة الإمام الحسين(ع) ماهي إلا صوراً تكاملية متجددة لرسالة الإسلام، وهي أصوات المنادين بقيمه ومبادئه الممثلة لنواميس السماء وتبيان الحق وسبل إتباعه التي عَمِل وسعى سلاطين الجور والطغيان على مر العصور في طمسها وتحريفها.
إن حركة العشق والتعطش المتولدة في نفوس زائري الإمام الحسين(ع) هي في مكنونتيها وحقيقتها حالة من حالات الحب والعشق للمبادئ والقيم التي حملها أنبياء الله ورسله، وسعى الإمام الحسين (ع) لتثبيتها بتضحيته وثورته، والذي عبر عنها الإمام الصادق(ع) بقوله: وهل الدين إلا الحب.
حلقات الحب والهيمان الذي يختلج في نفوس ملايين من زوار الإمام الحسين(ع) هو ترجمان لترسيخ مفهوم الطاعة وطريق الاتباع لمنهج محمد وآل محمد والذي مثله سيد الشهداء(ع) في نهضته، وهي سلسة مترابطة من حلقات الحب المبتدئة بحلقة حب النبي الأكرم(ص) والحلقة الأخرى المرتبطة بحب الإمام الحسين(ع) المفضية إلى الحلقة الأهم وهي حب الله، والذي وصفها الله بقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُور رَحِيمٌ.
إن مستوى التحصيل الإيماني والعقائدي من شعيرة زيارة الإمام الحسين(ع) تمكن الزائرين من توظيف الطاقات المكتسبة في ممارساتهم الحياتية والدينية بمستوى عال من الكفاءة والسمو، وهو التجسيد الأسمى لفهم ثورة الإمام الحسين (ع) وتضحيته الكبرى، والمتمثل باستنقاذ البشر من غياهب الظلمة والجهالة والعمى والشكّ والارتياب إلى قناديل النور ومفاتيح العلم والبصيرة وسبل اليقين والاطمئنان.
لايمكن اختزال زيارة الإمام الحسين(ع) بأبعادها الفكرية بعيداً عن مكنوناتها الوجدانية والعقائدية، وهذا مايبدو جلياً وواضحاً في الكيفية والهيئة التي أرادها أهل البيت(ع) من مواليهم تجسيدها عند زيارتهم للإمام الحسين(ع)، وذلك حينما وصفوها بهيئات مكانية وظروف زمانية عامة وخاصة يلتصق فيها الظرف الزماني بالحضور المكاني وبهيئة عاطفية وعزائية استثنائية خاصة كزيارة يوم عاشوراء ويوم الأربعين ويوم عرفة.
إن ديمومة واستمرارية الزحف والسير الإنساني نحو زيارة الإمام الحسين(ع) في كل سنة بالرغم مما تواجهه هذه الزيارة من تعتيم إعلامي ومخاطر وإرهاب مستمر، ماهو إلا مظهر إثبات لأحقية واستمرارية النهضة الحسينية الخالدة في هذا الوجود، وهي رسالة تحدي وإصرار متجددة في وجه المحاربين والمشككين والمتنكرين لها، وتُلفت عموم البشر في العالم إلى العطاء الحسيني الخالد، وتُمُيِزه عن غيره من العطاءات البشرية الأخرى.
تنفرد زيارة الإمام الحسين(ع) بأنها الرافد والمعين الذي لا ينضب الذي يُوصل الإنسان إلى حالة من التكامل الذاتي والإيماني المناط بشرطي عشق الزيارة ومستوى معرفة الإمام الحسين(ع)، بحيث يكون قادراً على تحمل الصعاب والعقبات والمخاطر التي سيواجهها في طريق زيارته حتى لو وصل به الحال بالتضحية بحياته، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق (ع) الى ابن بكير الذي كان يتحدث عن مدى ما لقيه من خوف وهلع في الطريق إلى زيارة أبي عبدالله (ع) فقال له: ألا تحب أن يراك الله فينا خائفا؟.
يرتبط نيل الفيوضات الكمالية والإيمانية من زيارة الإمام الحسين(ع) بمستوى المعرفة والاستعداد النفسي اللذين ينقلان المؤمن إلى فلك الارتباط الروحي الدنيوي والعطاء الأخروي المرتبط بنيل التوفيق لزيارة الإمام الحسين(ع) وشفاعته، والذي اختصرته عبارة في زيارة عاشوراء: اَللّـهُمَّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجيهاً بِالْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الدُّنْيا وَالاْخِرَةِ.
من فلسفات زيارة الإمام الحسين(ع) أنها الشعيرة الإلهية الجماعية التي تمكن الإنسان من تحويل الحالة الفكرية المتمحورة بالإيمان بالقيم السماوية كالعدالة والمساواة والتضحية والفداء وغيرها ونقلها من عالم الأفكار إلى العالم اﻹحساس الواقعي المتصل بعالم الغيب من خلال استلهامها واستشعارها ممن ترجمها لواقع إنساني متكامل لم ولن يتكرر في نواميس بني البشر.
إن من أسرار انجذاب الأطياف البشرية بمختلف توجهاتها الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها نحو شخصية الإمام الحسين(ع) كونه الشخصية التي تمتلك من الجاذبية والاستقطاب الاستثنائي القادرة على إشباع ميول وغايات ونوعية كل شخصية إنسانية قصدت زيارته.
وضعت شخصية الإمام الحسين(ع) وثورته في قاموس التعجب، والعجيب أن تكون زيارته في يوم الأربعين علامة من علامات الإيمان في الدنيا، وعلامة خاصة للمناداة بخصوصية زائره في الآخرة، لكن كل العجب أن علامة الإيمان المنسوبة لزيارته في الأربعين هي من ثبتت علامات الإيمان في حياة المؤمنين!!.
لاتعجب من حالة التعجب التي تعتري بعض العقول من الروايات الدالة على عظمة ثواب زيارة الإمام الحسين (ع) فهي، حالة طبيعية لا تدعونا للاتعاظ والاستنكار، فهي حالة ارتسمت حتى في عقول علماء ثقات كانوا مقربين من أئمة أهل البيت(ع) وانتابهم نفس حالة التعجب والانبهار عما سمعوه من عظيم وفضل زيارة الإمام الحسين (ع).
إذا لم تستوعب العقول مستوى عطاء وتضحية الإمام الحسين(ع) التي قدم فيها كل مايملك في سبيل الله وإعلاء لدينه، فهل يمكن أن تستوعب هذه العقول العطاء والثواب الرباني الكبير الذي يعطيه الله الزوار المخلصين والعارفين بالإمام الحسين، فلا شك أن كرم الله وسخاءه لهؤلاء سخاء وعطاء لا تتحمله عقول البشر، وهو القائل: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَاعَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
زيارة الإمام الحسين(ع) هي الزيارة الاستثنائية الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تستقطب قلوب البشر باختلاف أديانهم وانتماءاتهم وأعمارهم وأفكارهم، وكانت قادرة على تغذية وجدانهم وعقولهم وترسيخ قيم ومبادئ يرفعونها وينادون بها في أوطانهم ومجتمعاتهم.
تترجم حركة الموج البشري الزاحف نحو زيارة الأربعين معاني العشق والحب الاستثنائي للإمام الحسين (ع)، تتحول فيه مفردات الكلمات والمعاني إلى طيف الظلال الدافئ المرتسم على واقع حياتي قل نظيره ومثيله، توجه بصائر البشر قبل أعينها إلى استحقاق حسيني ولائي رفع لواء الإسلام الشامخ وثبت منابع الإيمان الراسخ، وأزال أقنعة الزيف عن الوجوه الخبيثة التي تجملت بقشور الإسلام، واعتلت منابره من أجل أهوائها وأطماعها الدنيوية.
إن خطى المسير الذي تخطه ملايين البشر نحو كربلاء في زيارة الأربعين للإمام الحسين(ع) هي في الحقيقية مسيرة أمل متجدد يتطلع لرسم مستقبل مشرق لبني البشر ومصدر إلهام لإشراقات إيمانية وعقلية وفكرية راسخة قد لايشعر بها إلا من خطت قدماه في طريق الأرض التي اختلطت بدمائه الزكية.
من يدقق في الطوفان البشري الزاحف نحو قبر الإمام الحسين(ع) في الأربعين يدرك ببصيرته أن هذا الفعل لم يكن عشوائياً، أو لا إراديا ً، كما يحاول البعض وصفه وتصويره، بل ثمة دوافع ومحركات إنسانية صرفة، مدعمة بالإيمان الجاد، وعناية خاصة من إمام هذا الزمان التي تقف وراء هذه الحشود المتزايدة من الزوار، وتوجهها الى كربلاء المقدسة، من كل حدب وصوب.
إن السير مشياً على الأقدام لزيارة الإمام الحسين(ع) لا يقتصر ولا ينتهي على الجانب التاريخي برفض الظلم الذي تعرض له آل بيت النبوة فقط، بل هو إعلان قائم لرفض الظلم والطغيان في أي زمان، وأي مكان، وهذا ماجعل الطغاة يخافون من ملحمة الحسين (ع)، ومبادئها التي هددت ولا تزال تهدد الظالمين، كونها تدفع باتجاه التحفيز الايجابي الدائم للتغيير نحو الافضل.
إن الماشي لزيارة الإمام الحسين(ع) يعلن بخطواته أنه شخصية إيجابية، وصاحب شخصية ايجابية متفاعلة، يسعى لتقويم شخصيته، و مقارعة الاخطاء وتصويبها، كما يدل إقدامه على المشاركة في هذه الشعيرة إيمانه برفض الظلم والقهر، واستعداده للمضي في الطريق الصواب الذي مثله الإمام الحسين (ع).
يمكن للمعنيين والمختصين كل في مجاله وتخصصه توظيف المسيرة المليونية في زيارة الأربعين التي تبني هؤلاء الملايين وتجعلهم عوامل مساعدة في بناء أوطانهم، وتطوير العمل الجماعي وما تظهره من طابع تشاركي في الجهد، والعمل الجمعي في بناء الإنسان وتغيير الواقع والتطلع للمستقبل كما صنع القائد الهندي الراحل (غاندي) من مسيرة الملح التي قادها سلاحاً فاعلاً لطرد الانكليز من بلاده.
من ثمرات زيارة الأربعين هو ذلك التلاحم الاجتماعي الذي تنتجه هذه الزيارة سواء على مستوى المسلمين أو غيرهم، حيث يشترك الجميع في تقديم الخدمات التي تجمع المسلمين وتقرّب بينهم، وتجعلهم يتمتعون بالروح الايجابية، المستعدة للتفاهم، والتسامح، والتعايش، وفق رؤية متوازنة، مستمدة أصلا من مبادئ أبي الاحرار (ع).
يعد الإمام جعفر الصادق(ع) أُسوة حسنة وقدوة صالحة في طريق المشي لزيارة الإمام الحسين (ع) فهو من أوائل من سنة هذه السنة، وإنّ في زيارته مشياً من الأجر والثواب، ومن الأسرار وفتح الأبواب، وقضاء الحوائج والشفاعة ما لا يعلمه إلّا الله سبحانه وتعالى.
يكفي الماشي لقبر الإمام الحسين(ع) أن يتذكر كلام الإمام أبي عبدالله(ع) لعلي بن ميمون الصائغ: يا علي زر الحسين (ع) ولا تدعه قال: قلت: ما لمن أتاه من الثواب؟ قال: من أتاه كتب الله له بكلّ خطوة حسنة، ومحا عنه سيّئة، ورفع له درجة،، فاذا انصرف ودّعوه وقالوا: يا وليّ الله مغفور لك، أنت من حزب الله وحزب رسوله وحزب أهل بيت رسوله، والله لا ترى النار بعينك أبداً، ولا تراك ولا تطعمك أبداً.
من يدقق في الطوفان البشري الزاحف نحو قبر الإمام الحسين(ع) في الأربعين يدرك ببصيرته أن هذا الفعل لم يكن عشوائياً متعلق بإرادة البشر، أو ثمة دوافع ومحركات إنسانية صرفة، انما بإرادة وعناية إلهية، وعناية خاصة من إمام هذا الزمان.
إن الماشي لزيارة الإمام الحسين(ع) يعلن بخطواته أنه شخصية إيجابية يسعى لتقويم شخصيته، و تقويم أخطاءه وتقويمها، واستعداده للمضي في الطريق الصواب الذي مثله الإمام الحسين (ع).
لزيارة الإمام الحسين (ع) بركات لاتحصى ونعم كبرى قد يستطيع الزائر الإلمام ببعضها إلا من خلال استنطاق الروايات الثابتة عن ائمة أهل البيت(ع)، لأن هذا العطاء الاستنثائي لزائر الإمام الحسين(ع) مقام مرتبط بعالم الملكوت ولا يمكن إدراك جزء منه إلا من لسان المعصوم.
إن زيارة اﻹمام الحسين (ع) يختصر بها المسافات الزمنية الطويلة لتلقف المعنويات الروحية، بحيث ينال تكريم من الله قد لايناله مع أي سلوك تعبدي وشعائري آخر يمارسه طوال حياته إلا من خلال قيامه زيارته، وهو تكريم خاص لم يرد في غير اﻹمام الحسين(ع) وزيارته.
من دلائل منازل التكريم الخاص لزائر الإمام الحسين (ع) أن الله يناجيه عبده مباشرة، دون واسطة، وهي منزلة لايصل لها أي إنسان إلا الأنبياء والمرسلين، وهذا ماتؤكده الرواية الصحيحة في كتاب الزيارات عن بشير الدهان عن الإمام أبا عبدالله(ع) قال: فإذا أتاه ناجاه الله تعالى فقال عبدي سلني أعطي، ادعني أجبك، اطلب مني أعطيك سلني حاجتك اقضيها لك وقال: وحق على الله أن يعطي مابذل.
من دلائل منازل التكريم الخاص لزائر الإمام الحسين (ع) أن خاتم الأنبياء (ص) يحتفه ويسلم عليه، وأمير المؤمنين (ع) يضمن له قضاء حوائج الدنيا والاخرة، وملائكة الله تقدسه وتمحو سيئاته وتضاعف حسناته، فلا يمكن للعبد أن ينال هذه التشريفات إلا في هذه الزيارة.
من دلائل منازل التكريم الخاص زيارة الإمام الحسين(ع) أنه العمل العبادي الوحيد الذي لايشترط قيد التحصيل الكمالي لنيل كامل ثوابه، بحيث ينال كامل ثوابه قبل إنجازه، وقبل أن يخرج من منزله، وهذا ما تؤكده الرواية الصحيحة في كتاب الزيارات عن الإمام أبا عبدالله(ع) قال: إن الرجل ليخرج إلى قبر الحسين(ع) فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة لذنوبه، بينما أمام أعمال المؤمن العبادية الأخرى كالصلاة والصيام والحج يشترط فيها الاتيان بها شرط من شرط الحصول على كامل ثوابها وقد لا يحصل على كامل ثوابها حتى مع الاتيان بها.
من دلائل منازل التكريم الخاص لزيارة الإمام الحسين(ع) أنه العمل العبادي الوحيد الذي يحصل على كامل ثوابه قبل الإتيان به بالرغم أن الخطوة ليست جوهر الزيارة ولا علة الزيارة ولكنها مقدمة لها.