انفجار الصراع الروسيّ – التركيّ أصبحَ في الأفق القريب!
د. وفيق إبراهيم
تبدو العلاقات الروسية – التركية محكومة بمفاوضات هادئة في العلن، لكنها تختزن في عمقها اندفاعاً نحو صدامات عسكرية نتيجة للانسداد الناتج من المفاوضات المفتوحة بينهما، مع تعدّد مناطق النزاع التي تمتدّ من سورية الى ليبيا والبحر المتوسط وإقليم ناغورني قراباخ. هذا الى جانب التمدد التركي عبر الحلف المتشكل منذ 2006 الذي يضم البلدان الناطقة بالتركية في اوزباكستان وقيرغستان الى جانب تركيا وبلوشتان وأذربيجان وكلها مناطق تجاور الحدود الروسية في آسيا الوسطى.
هناك أسباب أخرى عميقة تتعلّق بخط لنقل الغاز عبر أنابيب تعبر أذربيجان وجورجيا وتركيا نحو أوروبا كما هو مرسوم لها. هذا أمر يدخل في إطار العداء السافر للمصالح الروسية التي تعكس بلداً هو الأول في إنتاج الغاز في العالم ولديه ثلاثة خطوط لنقل الغاز إلى أوروبا عبر بحر البلطيق الى المانيا وعبر كل من أوكرانيا وتركيا الى اوروبا ايضاً.
لذلك، فإن دوافع الصراع بين البلدين عميقة جداً، على الرغم من محاولاتهما اللجوء الى فنون التفاوض المستمر للاتكاء على حد ولو أدنى يتيح لموسكو وانقرة الاستمرار في العلاقات بينهما، من دون أي لجوء الى حسم عسكري يبدو شديد الصعوبة في الأوضاع الحالية.
أين هي مواطن الاختلاف بين البلدين؟
افترض الروس أن التموضع الاحتلالي التركي في غربي سورية ومناطقها الحدودية في الجنوب، يدخل في إطار تجاوز تركي للمصالح الأميركية في سورية، فحاولوا اللعب على التناقضات بين البلدين معتقدين أن الرئيس التركي أردوغان لن يقبل بأي تسوية مع القوات الاميركية التي تحتل شرق سورية لأنها تتحالف مع القوات الكردية في «قسد»، وهذا يشكل استفزازاً لا تقبله تركيا التي تخاف من مشروع كردي إقليمي ينتزع بعض مناطقها الكردية الواسعة ليضمّها الى مناطق «قسد»، وربما الى كردستان العراقية ايضاً.
هذا الفهم الروسي الخاص اكتشف بعد تجذّر النفوذ التركي في إدلب أن هناك تقسيم أدوار بين الأميركيين في خطوط دير الزور والحدود في الشرق السوري وبين تركيا في إدلب والحدود، وافتعال مناوشات بينهما هو في صميم لعبة إيهام الروس بإمكانية نشوب صراع تركي – أميركي فعلي.
وهذا ما أتاح للأتراك الدخول كطرف كبير ووازن في المعركة على الغاز في البحر المتوسط في وجه اليونان وقبرص واستتباعاً فرنسا.
وسرعان ما تبين أن الأميركيين لا يجافون الموقف التركيّ مستعملين لغة المراقبة والإرشاد استناداً الى خطة أميركية اصبحت تقليدية وهي ترك الحلفاء يتقاتلون حتى تتمكن واشنطن من الإمساك بهم جميعاً وإعادة تعبئتهم على هوى مصالحها.
وهذا واضح في دخولها الخط على خط هذا الصراع وإرغامها التركي على سحب سفينته الخاصة بالتنقيب عن الغاز في مدى بحري يوناني. فاستكان الوضع بسحر ساحر منقلباً من مرحلة ما قبل الحرب الى مستوى العودة الى المفاوضات.
هنا أيضاً انتبه الروس متأخرين إلى أنهم مستهدفون من الاتفاق الأميركي التركي الإسرائيلي المصري حول الغاز في شرقي المتوسط ومياه البحر.
ولأنهم أدركوا أبعاد الصراع على ليبيا والدور التركي الداعم لدولة السراج غطوا إدخال أسلحة الى منافسة حفتر فاسحين المدى لشركة «فاغنر» الخاصة للمقاولات العسكرية بالدخول الى ليبيا لمجابهة قوات السراج المدعومة من تركيا علناً وأميركا سراً.
أما الموقع الرابع للصراع التركي الروسي فهو في إقليم ناغورني كاراباخ المحاذي لكل من أرمينيا واذربيجان ويقع عند الخطوط المرتقبة لنقل الغاز الأذربيجاني الى اوروبا عبر تركيا.
هنا ايضاً يبدو الصراع الروسي – التركي ملتهباً لأنه اقتصادي وجيوبوليتيكي في آن معاً. والدليل أن هناك اتحاداً ضمت إليه روسيا كلاً من أرمينيا وبعض دول الجوار مقابل منظمة الناطقين بالتركية التي تقودها تركيا مع دول قوقازية ناطقة بلهجات عثمانيّة.
لذلك فإن احتدام المعارك بين قوات أذربيجانية مهاجمة وقوات أرمينية مدافعة من ناغورني كاراباخ ليست حرباً محلية بقدر تموضعها ضمن صراعات اقليمية بين نفوذ تركي يخفي تأييداً اميركياً مع بعض دول اوروبية مقابل نفوذ تاريخي روسي قد يصل قريباً الى حدود الاعتقاد أن تركيا لا تعبر عن طموحاتها العثمانية فقط بل قد تصل الى مرحلة تأمين مبررات لمصالح الناتو الأميركي ايضاً.
الأمر الذي يكشف أن معارك ناغورني كاراباخ من الخطورة، بحيث إن أي تقدم فعلي لقوات اذربيجان في هذا الإقليم لن تكون فقط مجرد مبرر لتدخل أرميني هو موجود حالياً، بل تدفع نحو دور روسي عسكري مباشر في وجه قوات أذرية – تركيّة مدعومة من منظمات إرهابية كانت في سورية.
بذلك تصبح المنافسات التركية الروسية مفتوحة على كل الاحتمالات في سورية وليبيا والبحر المتوسط وصولاً الى القوقاز، لأن الدور التركي يتصاعد لأداء دور أميركي فقط للانكفاء لأسباب اميركية اقتصادية وأخرى انتخابية.
وهذا يفرض على القيادة التركية محاولات استدراج الناتو الى هذه المناطق او البحث عن تسويات مع الروس تحفظ لهم شيئاً من مطامعهم.
لكن البراغماتية الأردوغانية التي تبدأ عادة بإطلاق عنجهيّات تاريخيّة الى ان تصل الى تسويات، تتجه الى فعل الأمر نفسه مع روسيا في كل مواقع الصراع لعلها بذلك تحفظ قليلاً من المكاسب على حساب الأميركيين المتراجعين.