روسيا وسوريا: تمايز ضمن التفاهم
سركيس ابوزيد
مؤخرًا زار وفد روسي بارز دمشق يرأسه يوري بوريسوف (ممثل بوتين الشخصي الى سوريا)، وشارك فيه وزير الخارجية سيرغي لافروف. أثارت هذه الزيارة تكهنات كثيرة حول أهدافها، كما كان لافتًا التمثيل الرفيع لوزارتي الدفاع والأجهزة الأمنية. واعتبرت مرحلة جديدة في تعامل موسكو مع الملف السوري. هذا المنعطف الجديد يستند إلى ضرورة تنفيذ القرارات الدولية، ويمهد لبلورة استراتيجية جديدة للتعامل مع إنسداد أفق التسوية السياسية.
الوفد الروسي إلى دمشق حمل معه تقديمات وإغراءات اقتصادية ونصائح دبلوماسية هذه أبرزها:
- التنسيق بين موسكو ودمشق لمواجهة العقوبات الأميركية بموجب "قانون قيصر"، فكل المؤشرات تدل على أن الأسابيع المقبلة ستشهد صدور قوائم جديدة ستشمل رجال أعمال ونوابا ومسؤولين عسكريين، وفق ما بات يعرف بـ"سيف قيصر". وحمل الوفد الروسي إغراءات مالية واقتصادية بينها قروض أو منح بمليارات الدولارات الأميركية لإعطاء أوكسجين إلى دمشق يساعدها في الفترة المقبلة ويخفف عبء الأزمة الاقتصادية وسعر صرف الليرة السورية.
- المساعدة في كسر العزلة الدبلوماسية - السياسية وبدء عملية إعادة الإعمار، بالإقدام على بعض الخطوات الملموسة المتعلقة بترتيب البيت الداخلي وإجراء "إصلاح دستوري".
- تغيير أسلوب التعاطي مع إجتماعات اللجنة الدستورية وتسريع عملها لتحقيق إختراقات قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.. من الواضح أن موسكو، التي تؤكد على أنه لا حل عسكريا للملفات التي ما زالت عالقة في سوريا، تسعى لتحقيق هدفين أساسيين، وقد وضعت لهما أجندة زمنية:
* الأول سياسي: وضع آليات لدفع عملية المفاوضات السورية في جنيف، تتضمن الأجندة السياسية إنجاز تعديل دستوري وعرضه على الإستفتاء الشعبي بحلول آذار المقبل، يليه انتخابات برلمانية في أيار، ثم انتخابات رئاسية في تموز، وهو ما يتوافق مع وجهة نظر موسكو ومع قرار مجلس الأمن.
وبما أن موسكو تعتبر أن لا حل عسكريا للأجزاء التي ما زالت غير خاضعة لسيطرة الحكومة السورية، والمقصود هنا إدلب ومنطقة شرق الفرات، فإنها تسعى إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي والميداني في سوريا: فتح قنوات حوار مع الأكراد، والعمل على إيجاد صيغة لتمثيلهم في العملية السياسية من دون إغضاب أنقرة.
وفي إدلب يقوم التوجه على أن الشكل النهائي للتسوية يجب أن يقوم على أساس حوار تركي ـ سوري يفضي إلى توافق يرسخ الإحترام المتبادل للمصالح والأمن الحدودي، ما يعني أنه يمكن أن يقوم على أساس إتفاق أضنة، مع إحتمال توسيعه بعض الشيء..
تتمسك روسيا بالعلاقة مع تركيا وتعمل على ترتيب الوضع لفتح حوار شامل مع الولايات المتحدة بعد انقضاء الإستحقاق الانتخابي الرئاسي، بهدف حسم الوضع في مناطق شرق الفرات. باختصار، إن موسكو تركز على إعادة ترتيب الوضع السوري على مختلف الصعد، وتعزيز الأوراق الروسية تمهيدًا لإطلاق مرحلة التسوية النهائية. وهنا يبرز التباين بين آليات تعاطي موسكو ودمشق في أكثر من مفصل مهم في ملفات الأزمة: العلاقة مع الأكراد والعلاقة مع تركيا.
* الثاني اقتصادي: عبر إطلاق آلية واسعة لدعم الاقتصاد السوري في مواجهة المخاوف من إنهياره بسبب تردي الأوضاع المعيشية والتدهور الكبير في الأوضاع الداخلية، ما يمكن أن يسبب أزمات كبرى، لا تعرقل فقط التسوية السياسية، بل قد تسفر أيضا عن خسائر سياسية فادحة لروسيا في نهجها الدبلوماسي على المسار السوري. كما وضعت مخططا لتوسيع حضور شركاتها الاقتصادية الكبرى في البنى التحتية السورية، وفضلا عن المرافئ (طرطوس واللاذقية) تطرقت المشاريع إلى الطاقة والتنقيب واستخراج النفط من الحقول البحرية وغيرها.
إختيار بوريسوف لمتابعة ملفات تحظى باهتمام خاص لدى الكرملين، وبينها ملف إدارة العلاقة الاقتصادية التجارية مع سوريا، يعكس مدى إهتمام الكرملين بتعزيز الدور الروسي في القطاعات الحيوية ومشاريع إعادة تأهيل البنى التحتية السورية، وهي مشاريع تتوقع موسكو انطلاقها فور دوران عجلة التسوية السياسية في البلاد.
وكان بوريسوف طرح في إطار اللجنة الحكومية الثنائية للتعاون الاقتصادي التجاري خارطة طريق متكاملة لتوسيع مجالات التعاون في قطاعات عدة بالغة الأهمية. ومع أن الخريطة التي شملت نحو 30 مشروعًا استراتيجيا لم تجد طريقها إلى التطبيق منذ إبرام إتفاق بشأنها قبل عامين، فإن الزيارة الأخيرة للمسؤول الروسي برفقة وزير الخارجية سيرغي لافروف أسفرت عن إحياء تلك الخطة العملاقة، عبر توسيعها. وهي تشمل هذه المرة 40 مشروعًا ضخمًا في مجالات الطاقة والوقود وتطوير محطات الطاقة الكهربائية في البلاد، وإعادة تأهيل قطاعات صناعية عدة، وصولا إلى الإستحواذ على مشاريع إستخراج النفط والغاز في الحقول البحرية السورية، ما يضمن بقاء روسيا لفترة طويلة مقبلة لاعبا أساسيا في مشاريع الطاقة الجديدة في المنطقة.
من الواضح أن هذه المرحلة تقوم على إنخراط أوسع في أهم مشاريع البنى التحتية الصناعية ومشاريع الطاقة تحضيرا لإطلاق عمليات إعادة الإعمار في وقت لاحق. ويبدو أن موسكو تسعى نحو إطلاق عملية سياسية تسهل حشد تأييد دولي لإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وتقلّص من إحتمالات إنزلاقها وحيدة في مواجهة تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية للسوريين في ظروف بالغة الصعوبة. على هذه الخلفية نُظر إلى الزيارة اللافتة للوفد الروسي على أنها تهدف إلى دعم دمشق بضرورة الإنخراط النشط في "العملية السياسية"، فضلًا عن ضرورة القيام بخطوات جادة ومسؤولة على صعيد الإصلاح الداخلي اقتصاديا وسياسيا.
موسكو تعتبر أن إتباع نهج مرن من جانب دمشق من شأنه أن يساعد روسيا في اتصالاتها مع شركائها الغربيين والعرب للخروج بموقف واضح، لأن إعادة التأهيل الاقتصادي لسوريا غير ممكن من دون تنسيق الجهود على المستوى الدولي. وتعتبر أنه على دمشق أن تتفهم موقف روسيا، في سياق الصراع المستمر، دوافع احتفاظها بعلاقات التحالف مع سوريا وفي الوقت نفسه مع "إسرائيل" وتركيا وإيران، لأن لروسيا مصالحها العالمية الخاصة، والتي قد لا تتوافق دائما وفي كل مكان مع مصالح هذا البلد أو ذاك في الشرق.. في المحصلة، ستكون الأيام والأسابيع المقبلة إختبارا لمدى فعالية الدور الروسي في العلاقات الدولية والاقليمية المتناقضة رغم التباينات المرحلية مع الحلفاء.