kayhan.ir

رمز الخبر: 11928
تأريخ النشر : 2014December16 - 21:37

داعش و العلاقات الامريكية – التركية : اعادة تشكيل الجغرافيا

د. دياري صالح مجيد

منذ ان هيمن تنظيم داعش على تفاعلات المشهد السياسي في المنطقة والحديث يدور بشكل كبير عن طبيعة الدور التركي القلق من ما يسمى بالتحالف الامريكي لمكافحة الارهاب . فتركيا الاردوغانية كانت وحتى وقت قريب غير مرحبة بان يكون لها اي دور في هذا الحلف بفعل رغبتها في ان ترى داعش مسيطرة على مجمل النطاقات التي تريد ان تتمدد فيها طالما انها ستعمل بالنهاية تحت قيادة حزب العدالة والتنمية الطامع دوما باعادة ارث السلطنة العثمانية الى الوجود .

دفع الامريكان بكثير من قدراتهم الدبلوماسية والاقتصادية لمقايضة الانضمام التركي الى هذا الحلف . حيث تقف اعتبارات عديدة وراء اجبار واشنطن على ان تكون مستمعا جيدا لمطالب تركيا في هذه الصفقة , فهنالك الموقع الجغرافي ذي القيمة الاستراتيجية العالية لتركيا من مجمل المسرح الجغرافي الذي ينشط فيه هذا التنظيم . كما تملك تركيا على اراضيها قاعدة انجرليك التي ساومت من خلالها الاخرين بعدم امكانية فتحها للقيام بطلعات جوية ضد داعش لتكبلهم اقتصاديا بمصاريف مضافة في حال استمرت الطلعات من القواعد العسكرية الامريكية في الخليج . ناهيك عن ان واشنطن ترى في ان انضمام تركيا لهذا الحلف سيعني ايقاف اهم قنوات تمويل وتسليح وتزويد داعش بما تحتاجه لاستمرار بقائها لاعبا فاعلا في خريطة التفاعلات السياسية في المنطقة . لذا لم تتردد واشنطن بمطالبة انقرة بعدم السماح بمرور شحنات النفط المهربة من النطاقات التي تهيمن عليها داعش باتجاه سوق الطاقة العالمي عبر وكلاء اتراك . وهي لهذا مستمرة في توجيه ضرباتها لحقول النفط ولجميع التجهيزات الخاصة باستخراج وتكرير النفط وشاحنات نقله , لتدخل هذا التنظيم في علاقة مأزومة اقتصاديا على المدى البعيد وفي علاقة مأزومة مجتمعيا في المدى القريب بفعل تراجع تجهيز البنزين في النطاقات التي يهيمن عليها وما يثيره ذلك الامر من سخط شعبي يعجل بتراجع دور هذا التنظيم .

الا ان المشهد ليس بهذه البساطة فهو في طريقه الى مزيد من التعقيد بفعل تحوله الى نقطة خلاف حرجة باتجاهين متضادين لا يخدم بالنتيجة الا فكرة استمرار داعش في تمددها وفي تحولها لاحقا الى حقيقية جغرافية – سياسية جديدة لايمكن نكران اثرها في طبيعة المستقبل السياسي للمنطقة برمتها . فأنقرة ترى في هذا التنظيم اداة لخدمة طموحاتها المتعددة باتجاه سوريا والعراق لاعتبارات ذات علاقة مباشرة بالجيوبولتيك التركي الذي ترتسم ملامحه بالقضاء على تجربة الحكم الذاتي الكردي , السيطرة على النفط والتحكم به تركياً , فصل نطاقات التواصل الجغرافي بين اقاليم كردستان بين العراق وسوريا من خلال سيطرة داعش على جسور التواصل الارضي التي تربط بينها , تهديد الامن الداخلي للعراق وسوريا تمهيدا لتنصيب حكومات ذات هوى عثماني , القضاء على الكثير من الخصوم , فتح مجالات حيوية امام الدور التركي , تشكيل المناطق العازلة وكثير من الابعاد التي تتكشف كلما اوغلنا في تتبع الاستراتيجية التركية هناك .

اما واشنطن فترى الموضوع من زاوية اخرى وفقا لما يخدم مصالحها الاستراتيجية في كل من العراق وسوريا وبالطريقة التي تتقاطع فيها مع الرؤية التركية . دون ان ينفي ذلك الحقيقة التي تشير الى ان سياسات اوباما كانت هي الاخرى تقف بقوة وراء بروز داعش في هذين البلدين بفعل الرؤى والتقديرات الخاطئة للاستراتيجية الامريكية التي كانت مهووسة بفكرة احتواء الدور الايراني – الروسي باي طريقة كانت , لتجد نفسها بالنهاية امام حليف تحول بفعل تعزيز مصادر قوته العسكرية والجغرافية والنفطية الى عدو يُخشى كثيرا من خروجه عن نطاق السيطرة في المستقبل . وهنا نجد مصداقا لهذه الفكرة التاكيد الذي يشير الى ارتفاع نسبة الامريكان الذين يجدون بان سياسات اوباما غير مناسبة للتعاطي مع هذا التهديد الذي ستصل شرارته الى المصالح الامريكية في كثير من النطاقات . فقد وصلت هذه النسبة بحسب استطلاع نشر بتاريخ 10 اكتوبر الى 51% بعد ان كانت هذه النسبة قد وصلت الى 48% قبل قرابة شهر من هذا التاريخ .

في الملف السوري , الذي تتصادم فيه الرؤى التركية – الامريكية بشكل كبير , نجد بان واشنطن حتى هذه اللحظة ترفض الاستجابة لموضوع اقامة المنطقة العازلة المدعوم تركيا . كما انها تسمي الاكراد المقاتلين بشراسة ضد داعش بانهم حلفاؤها على الارض وبانها ستعمل على مساعدتهم عسكريا ولوجستيا خاصة وانها تسعى اليوم بحسب بياناتها الرسمية الى ضرورة عدم سقوط كوباني بيد داعش . لذا يبدو ان الحرب هناك جزء من مشروع تضاد المصالح الامريكية – التركية المتنامي بقوة . وهي ايضا هنا ترى بان الاولية الاستراتيجية لها تكمن في تحجيم الدور الذي يمارسه داعش , في حين ترى انقرة بان الاولوية يجب ان تعطى لاسقاط النظام السوري باعتباره هو الاخطر من وجهة نظر مصالحها بعيدة المدى . لذا نجد بان اردوغان يصرح دوما بان سياسات بشار الاسد هي التي قادت الى ولادة داعش , واذا ما اردنا التخلص من الاخير فعلينا ازالة هذا النظام من دمشق ! . رغم ذلك تبدو الاوراق التركية في سوريا اكثر تعددا وقدرة على اجبار واشنطن على تقديم بعض الوعود والتنازلات التي قد تقود بالنهاية الى التضحية حتى بمن تسميهم حلفاء لمجرد كونهم يقاتلون داعش لحماية ارضهم ومدنهم وعوائلهم دون ان يحصلوا بالنهاية على الدعم الحقيقي الذي وعدت به واشنطن في ظل الحصار الجغرافي المطبق على الاقل بكوباني التي تحولت الى عقدة جيوبولتيكية خالصة في هذا السياق .

اما في الملف العراقي فيبدو ان واشنطن تملك زمام المبادرة بشكل اكبر من انقرة وهي قادرة على رسم المشهد السياسي هناك بطريقة اقل ازعاجا لها مما يحصل في الملف السوري . ففي العراق هنالك حكومة لازالت تقيم معها واشنطن علاقات تصفها هي بانها علاقات جيدة على عكس علاقاتها المنقطعة رسمياً مع دمشق . كما ان في العراق مؤسسة عسكرية يمكن الاعتماد عليها في الوقوف بوجه داعش حتى لو تم الاكتفاء فقط بتوفير ضربات " فعالة " من قبل الطيران الغربي لايقاف زحف وتمدد هذا التنظيم باتجاه بقية المدن العراقية . في العراق لا يملك داعش الان على الاقل القدرة على الحاق الضرر باقليم كردستان بذات الطريقة التي قام بها في سوريا , وهو ما يعد ورقة مهمة في ظل كفاح البيشمركة لتامين اراضي الاقليم وربما لاحقا المشاركة مع الجيش العراقي برعاية امريكية للتوجه نحو نطاقات اخرى لاخذ زمام المبادرة من داعش . يبدو ان الوضع العراقي حتى اللحظة هو الاقرب للمصالح الامريكية في موضوع الحرب على داعش منه الى تركيا التي بدات تضيق دائرة نفوذها خاصة بعد ان عُقدت اجتماعات مكثفة في عمان بين واشنطن وزعماء القبائل السنية في العراق , والتي بدات في اعقابها دعوات مهمة بعضها يدعو لتشكيل الحرس الوطني لتحرير المناطق الواقعة تحت هيمنة داعش وبعضها يدعو صراحة لضرورة التدخل العسكري الامريكي نافيا بذلك اي علاقات قد تمهد هنا للدور التركي .

في ظل هذه الرؤية تتجسد ملامح سايكس بيكو جديدة تمثلت دلالاتها الاضافية بالاصرار التركي مؤخرا على المنطقة العازلة التي ايدتها فرنسا بقوة , في مقابل الرفض الامريكي – البريطاني الذي بدا يكثف من ثقله في الملف العراقي في خطوة قد تفضي لاحقا الى تقاسم الجغرفيا العراقية – السورية بين هذه الاطراف وفقا لمبدأ تكافؤ الفرص . فالوجود ( المباشر او غير المباشر ) التركي المحتمل في سوريا سيقابله وجود محتمل للامريكان في العراق وستكون كلتا الحكومتان في بغداد ودمشق في حالة ضعف كبيرة .

بالمقابل ان كانت دمشق اليوم تعيش في عزلة عن النطاقات التي تفكر تركيا باحتلالها ولا تعول بالنتيجة الا على الضغط الايراني لكبح جماح تركيا عن القيام بمثل هذه المغامرة , يبدو ان بغداد لازالت بعد تملك قدرة تفاوضية اكبر في ظل علاقتها بواشنطن وفي ظل تامين اقليم كردستان من داعش وكذلك في ظل سيطرة داعش على نطاقات لازلت بعد غير مرحبة بالكامل بعودة الامريكان بحجة محاربة داعش . الا ان هذه القدرة ميدانيا لازلت مرهونة بعدم تقدم داعش نحو بغداد وكذلك مرهونة بالتفاهمات الايرانية – الامريكية التي يمكن ان تصل الى تسويات مهمة في موضوع مواجهة خطر الارهاب من دون التدخل عسكريا .

لصورة برمتها يشوبها كثير من الغموض في ظل تنافر المصالح التركية – الامريكية الذي يعطي لداعش فرصة اكبر على التمدد ستسهم مستقبلا في تعقيد الاوضاع بطريقة كبيرة وبالشكل الذي سيفضي ربما الى تقاسم الاحتلال بين اطراف اللعبة الرئيسين بما يخدم مصالحهما العليا باعادة انتاج الخريطة الجديدة للمنطقة بما يخدم رؤيتهما المستقبلية التي لا تنسحب منها بالضرورة فكرة تقليص الدور الايراني عبر انتاج جغرافيا جديدة اشار لها كيسنجر في الفترة الاخيرة في تعليقه على موضوع داعش بالقول " على الرغم من الاخبار المزعجة فان الجمهورية الاسلامية تبقى تحديا اكبر للولايات المتحدة من ذاك الذي تفرضه الدولة الاسلامية … ان الصراع مع داعش يمكن ادارته بشكل اكبر مما هو عليه الحال مع ايران … ان هنالك اليوم حزاما شيعيا يمتد من طهران الى بغداد وبيروت … نحن بحاجة الى اعادة ترسيم الحدود الدولية على اعتبار ان حدود التسوية لسنوات 1919-1920 قد بدات بالانهيار " .

رغم كل ذلك ستبقى دوما هنالك ادوار مهمة للقوى الفاعلة على الارض لتعطيل مثل هذه التصورات ( الامريكية – التركية ) الحالمة باعادة انتاج الجغرافيا وفقا لتصوراتها الاستراتيجية الخالصة التي لاترى في الصورة غير فواعلها الذين سيسهمون بطرق متعددة في مساعدتها على ترسيم خطوط الحدود التي لن تمر بسهولة في المنطقة بدون ان تكون في النهاية كلمة ما سيقولها المحور المضاد الذي بعد لازال فاعلا وممسكاً بالعديد من عناصر القدرة والتأثير الاستراتيجي .