من هنتغتون إلى كوشنير,,,
غسان يوسف
يقول صموئيل هنتغتون أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد وهو من أشهر المفكرين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة في كتابه (صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي) الذي صدر قبل عشرين عاماً: "إنّ الطرح الرئيسي في هذا الكتاب هو أنّ الثقافة أو الهوية الثقافية، والتي هي في أوسع معانيها الحضارية، هي التي تشكل نماذج التماسك، والتفكك، والصراع.. في عالم ما بعد الحرب الباردة”!
الحرب الباردة وحسب رأي الكثيرين انتهت تماماً عندما سقط جدار برلين، وعندها اعتقد الغرب أنّ القطب الآخر قد سقط تماماً، وراحت مراكز الدراسات في الولايات المتحدة تصدر الدراسات والكتب ومنها كتاب هنتغتون هذا، للتأكيد على أنّ هناك ثقافة واحدة يجب أن تسود العالم وهي الثقافة الغربية، وهو ما أشار إليه هنتغتون بأنّ الحضارة والثقافة المنشودتين يجب أن ينظر إليهما على أنّهما نتيجة واسعة للتحديث الغربي الذي بدأ منذ القرن الثامن عشر! برأي هنتغتون أنّ الغرب يختلف بكل وضوح عن كل الحضارات الأخرى التي وجدت حيث كان لها تأثير هائل جداً على كل الحضارات الأخرى التي وجدت منذ العام 1500، وكنتيجة لذلك فإنّ كل المجتمعات وكل الحضارات تحاول اللحاق بالغرب!
ما يحز في النفس فعلاً أنّ منظري الغرب المتعالين أمثال هنتغتون وبريجنسكي ولويس.. ينكرون على شعوب العالم إسهاماتهم في بناء الحضارة الإنسانية حتى لا نقول العالمية، متجاهلين أنّ الحضارة كل لا يتجزأ فمن بدأ بنشر الوعي الإنساني والثقافة الإنسانية هم شعوب الشرق وليس الغرب، وإذا كانت الأخلاق صنو الأديان فمن الحق القول إنّ الأخلاق انطلقت من الشرق أيضاً. الأمر الذي يتعمد الغرب إنكاره دائماً هو أنّ ثمة حضارات ساهمت في رفد الحضارة العالمية بما لم يقم به الغرب فهل يمكن مثلاً نكران ما قامت به كل من شعوب الصين والهند وسورية ومصر... الخ، وهل يمكن تجاهل أنّ الحروب الغربية على شعوب العالم لم يكن هدفها يوماً التعمير وإنما التدمير.
إنّ خطاب صدام الحضارات يعكس وبكل وضوح تعطش الغرب للفوقية والعنصرية فهذا الخطاب يجب أن يسود برأي هؤلاء ليعكس مركزية الحضارة الغربية، وبتعبير أدق ليعكس التفوق الغربي ليس في الصناعة والتكنولوجيا وإنما في الحضارة!
ما جعلني أكتب هذا المقال هو زيارة وزير خارجية فرنسا الأسبق برنار كوشنير إلى القامشلي حيث وعد الأكراد بحكم ذاتي مقابل حماية المسيحيين وكأن من حق فرنسا أو غيرها التدخل في شؤون البلدان الأخرى وتقسيم أبناء الوطن الواحد إلى فئات وجعل البعض عدواً للبعض الآخر وهم الذين عاشوا مئات السنين في منطقة واحدة شربوا من مائها، وأكلوا من رزقها، وتقاسموا همومها! وقاحة كوشنير هي امتداد للنظريات العنصرية التي تسعى لخلط الدين بالحضارة التي تتجلى في هذا الكتاب، حيث سعت بعض الدوائر الغربية لاستغلال هذه النظرية وتسويق حروبها وعنصريتها ضد الشعوب الأخرى. بعد تفجير برجي التجارة العالمية في منهاتن عام 2001 اعتذر بعض المنتقدين لهنتغتون، وحاولوا تسويق مقولة أنّ القاعدة هي الحضارة الإسلامية! لكن الشيء الثابت اليوم ونسفاً لنظرية هنتغتون هو أنّ الصراعات هي داخل الحضارات وليس بين الحضارات، ولكن للأسف فإنّ التنفيذ يجري بأدوات محلية تحركها أصابع غربية.
خلاصة القول: إنّ الحضارة لا يمكن تعريفها عن طريق الدين، والعالم اليوم أكثر فوضى مما كان يتوقع هنتغتون، والصدام بين الحضارات لم يكن ليحدث لولا المصالح والشركات العابرة للقارات.