لماذا يهدّد ’داعش’ كل العالم.. وينسى ’إسرائيل’؟
محمود ريا
يحمل "منطق” التنظيم الإرهابي "داعش” في التعاطي مع الدول والقوى والمنظمات الكثير من المفارقات التي تثير التعجب، إن لم يكن الاستغراب والسخرية.
فمنظّرو التنظيم الإرهابي يجيبون دائماً عن السؤال حول عدم استهدافهم الكيان الصهيوني ـ العدو الأول والحقيقي لأمتنا ـ بالقول: إن الأولوية هي لقتال المرتدّين، وبعد الانتهاء منهم والانتصار عليهم يمكن الانطلاق لقتال "الكفار” وعلى رأسهم اليهود، ولا سيما في الكيان الصهيوني.
ومع خواء هذا النهج في تعريف الأعداء والتعامل معهم، فهو يصطدم أيضاً بوقائع على الأرض تكشف انحراف هذا التنظيم عن هذا النهج الذي وضعه بنفسه.
فإرهابيو داعش لا يتوانون عن إطلاق التهديدات يميناً وشمالاً بحق دول بعيدة، لا يربطها بالتنظيم أي رابط من عداء، مع كونها دول "كافرة” بالتعريف الداعشي.
وفي هذا السياق مثلاً تأتي التهديدات التي أطلقها تنظيم داعش ضد كندا، عبر أحد المواطنين الكنديين الذين انتسبوا للتنظيم، متخلياً عن اسمه الكندي "جون ماغواير” ومنتحلاً اسماً جديداً هو أبو أنور الكندي، حيث حذّر كندا من أن "وقت الحساب آت”.
قد يكون سبب التهديد الذي أطلقه ماغواير هو إعلان كندا عن تنفيذ أولى الضربات العسكرية الجوية ضد تنظيم داعش في العراق، ما يُعطي مشروعية للتهديد، ويجعل كندا في دائرة "الأعداء المعجّلين”، ويُخرجها من دائرة الأعداء الذين يمكن تأجيل مواجهتهم إلى ما بعد الانتهاء من المرتدّين الأقرب فالأقرب، أي جبهة النصرة والمسلمين السنّة الذين لا يلتزمون بالنهج السلفي الوهّابي التكفيري، ومن ثم "الرافضة” و”النصيريين” و”الدروز” وغيرهم من المسلمين الذين لا يعترف التنظيم بإسلامهم.
إلا أن هناك ثغرة لا بد من الالتفات إليها خلال تقييم هذا النهج في التفكير، فزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي لم يعد ـ بإقراره ـ قائداً لفصيل عسكري صغير، وإنما أصبح "أمير المؤمنين” في "الدولة الإسلامية”، أي أنه بات "ولي أمر كل مسلم ومسلمة”.
ومن يتنطّح لمهمة بهذا الحجم، إذا كان يملك رجاحة في العقل والمنطق، لا يمكنه الاستمرار في التعامل مع الأمور على أساس أنه زعيم لزاروب أو قائد شوارعي، بحيث إن اهتمامه يبقى محصوراً في حماية هذا الزاروب أو الشارع، وكل من " يعتدي عليه” يصبح في دائرة الأعداء الذين يجب معالجة عدائهم بشكل طارئ وفوري.
فـ "أمير المؤمنين” مسؤول عن كل المسلمين، وعن كل أراضيهم، ومن بينها فلسطين، وعندما يُضارّ مسلم في فلسطين، فعلى أمير المؤمنين واجب حمايته والدفاع عنه.
ولا خلاف في أن مسلمي فلسطين (وهم من أبناء المذاهب السنّية، وليسوا روافض أو غير ذلك) يتعرضون لعدوان لا يتوقف، يستهدف أرضهم وبلادهم وهويتهم ودينهم، فضلاً عن أشخاصهم وأملاكهم وأرزاقهم وحقوقهم، فلماذا "يتقاعس "أمير المؤمنين” عن التصدي للمعتدين الصهاينة، وعن تنفيذ عمليات ضدهم، لا بل لماذا يقصّر في تهديدهم وتوجيه الإنذارات إليهم بالكفّ عن إيذاء "أبناء رعيّته” في "دولته الإسلامية” التي تشمل فلسطين في خارطتها التي وزّعها التنظيم نفسه؟
إن الفكر الوهابي الإرهابي الذي يتلبّس هذه المجموعات التكفيرية هو فكر أعوج أجرد، فكر يسمح بذبح المسلمين وهدم مساجدهم، ويسمح بسبي بنات الوطن المسيحيات والأيزيديات وبيعهنّ في أسواق الرقيق باسم الإسلام، كما يسمح بتوجيه التهديدات إلى كندا في أقصى أطراف الأرض، بل وربما تنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها، كما حصل وقد يحصل في المستقبل القريب، فيما هو قاصر عن استنكار حرب الإبادة الدينية والقانونية والسياسية التي تقوم بها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، حيث تُنتهك أرضه كل يوم، وتهدّد مقدساته، ويخيّم شبح الطرد من أرض الآباء والأجداد على أبنائه، وينام "أمير المؤمنين” ملء جفونه عن هذه التهديدات لأن "محاربة اليهود ليست في رأس الأولويات”.
إذا كانت كندا مستهدفة اليوم بتهديدات تنظيم داعش، فللمسؤولين الكنديين أن يقلقوا، وأن يعملوا على اتخاذ إجراءات وقائية في مواجهة هذه التهديدات، كما إن أي دولة في العالم يجوز لها أن تقلق من خطر إرهابيي داعش وتهديداتهم، إلا "دولة” واحدة هي إسرائيل، فلن تطالها تهديداتهم ولا هجماتهم، لسببين:
ـ الأول: أن هؤلاء التكفيريين لا يعتبرون إسرائيل عدواً، إلا لفظاً وفي التصريحات، وبالتالي هم لن يهاجموها حتى ينتهوا من "فتح” الكرة الأرضية ومن "أسلمتها”، عملاً بسلّم الأولويات الأعرج الذي يعتمدونه.
ـ الثاني: أن إسرائيل نفسها لن "تعتدي” على هؤلاء التكفيريين، ولن تشارك في ضربهم وشنّ الغارات عليهم. ولماذا تفعل ذلك، وهم ينفذون مآربها، ويحققون أهدافها بشق صفوف الأمة وتفكيك مكوّناتها وقتل أبنائها وتهديد مصادر القوة فيها؟
إن تنظيم داعش الإرهابي الذي ينهش جسد الأمة في سوريا والعراق ولبنان، ويهدد دول العالم ويثير عداوتها ضد المسلمين بالمجان، وشقيقه ـ العدو جبهة النصرة، التي تتعاون مع إسرائيل وتعمل تحت حمايتها في الجولان، هما النموذج الذي يجسد مدى الخطر الذي يمكن أن يشكّله الانحراف الفكري عن جادة الحق، وكما يجسّد التهديد الذي يفرضه هذا الانحراف على العرب والمسلمين، وعلى دول العالم كلها، بما فيها كندا التي وضعها أبو أنور الكندي تحت مجهر الخطابات التلفزيونية المليئة بالسفسطات الفكرية والسقطات العقائدية.