منافسة تركية - روسية - اسرائيلية على محور آذربيجان ـ أرمينيا
سركيس ابوزيد
تمتلك تركيا مشروعًا إقليميا يقوم على التمدد التدريجي. وهي تنظر إلى جوارها على أنه ساحات رخوة. واكتسب المشروع التركي زخمًا بفعل تفاقم التناقضات الدولية وتزايد الصراعات الإقليمية، وتنامي الدعم المتصاعد الذي تقدمه أنقرة بسخاء للتنظيمات الراديكالية التي غدت أقرب إلى "وكلاء محليين" يدينون بالولاء للقيادة التركية، وباتت هذه القيادة تتولى مهام تدريبهم وتمويلهم سعياً إلى توظيفهم في مشاريعها الإقليمية. مشروع أردوغان الطموح هو مزيج من قومية عثمانية وإسلام سياسي، انطلق من سوريا وتمركز في قطر وحط رحاله في ليبيا، وسجل اختراقات متفاوتة الحجم والأهمية في غزة والعراق وتونس واليمن والصومال، ومؤخراً وصل الى آذربيجان.
بعد سوريا وليبيا والعراق، جبهة جديدة تنفتح في منطقة على علاقة مباشرة بتركيا. أفادت معلومات أن مسلحين من فرقة "السلطان مراد ـ الجيش الحر"، الموالية لتركيا، يستعدون للذهاب برفقة مسلحين تركمان إلى آذربيجان للقتال ضد الأرمن إلى جانب الأذريين. ولا يزال التوتر يخيم على الحدود المشتركة بين أرمينيا وآذربيجان، العدوتين اللدودتين عرقيا ودينيا وسياسيا وعسكريا. بعد الاتصالات التي أجراها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والدفاع سيرغي شويغو، مع الآذربيجانيين، بدأ حوالى 150 ألفا من القوات الروسية، البرية والجوية، مناورات واسعة على طول الحدود الروسية مع آذربيجان وجورجيا وأرمينيا، كرد فعل على المعلومات التي تحدثت عن احتمالات التدخل التركي المباشر في الاشتباك الآذربيجاني - الأرميني. سبقت ذلك تصريحات متتالية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ووزيري الدفاع والخارجية، هددا وتوعدا فيها أرمينيا بسبب عدوانها على "الشقيقة آذربيجان".
ورددت التصريحات الرسمية، ومعها الإعلام التركي الموالي، أن تركيا على استعداد لتلقين أرمينيا الدرس الذي تستحقه، وهو ما تسعى إليه أنقرة منذ فترة طويلة، إذ يقوم الضباط الأتراك بتدريب الجيش الآذربيجاني (قوامه حوالى 200 ألف مقابل 27 ألفا للجيش الأرميني الذي هزم آذربيجان وسيطر عام 1992 على إقليم ناغورني قره باغ ذي الأغلبية الأرمنية، كما استولى على 7 أقضية أذرية تحيط بالإقليم).
بدأت أنقرة في السنوات الأخيرة بتسليح الجيش الآذربيجاني، خاصة بالطائرات المسيرة. وحرب الطائرات المسيرة بين آذربيجان وأرمينيا بدأت قبل خمس سنوات، إثر شراء آذربيجان أسلحة ومعدات حربية من "إسرائيل"، منها طائرات مسيرة متطورة من طراز "أربيت هارمس" و"أوربيتار" و"هاروب". وأقامت "تل أبيب" في المقابل قواعد أو مراكز عسكرية واستخبارية عديدة في مختلف الأراضي الآذربيجانية.
استهدفت "إسرائيل" بذلك الجارة إيران لمراقبة كل التحركات العسكرية، وخاصة في المواقع النووية شمال إيران وشرقها القريبة من الحدود مع آذربيجان. وهو ما تقوم به قاعدة "كوراجيك" شرق تركيا، التي أقامها الأميركيون عام 2011، وتحدث الإعلام التركي والأميركي والأوروبي آنذاك عن مهمة هذه القاعدة لرصد كل التحركات العسكرية في سوريا والعراق وإيران ورصد الصواريخ الباليستية الإيرانية التي قد تستهدف "إسرائيل"، حتى يتسنّى لمنظومات "الدفاع" الإسرائيلية التصدي لها قبل أن تصل. وسبق لـ"إسرائيل" أن أقامت قواعد تنصت ورصد قرب العاصمة الجورجية تبليسي، وهي قريبة من إيران، واضطرت إلى إغلاقها بعد الحرب الروسية - الجورجية صيف 2008.
آذربيجان، ذات الأصول القومية التركية والذكريات السيئة مع الأرمن، رجحت "إسرائيل" في تحالفاتها على تركيا. فـ"اسرائيل" تغطي حوالى 40 في المئة من احتياجاتها من البترول الآذربيجاني، فيما تسهم شركة النفط الآذربيجانية "سوكار" في عمليات البحث والتنقيب عن الغاز والبترول قبالة سواحل حيفا.
وينظر إلى العلاقات بين تركيا وآذربيجان على أنهما شعب واحد في دولتين. يضاف إلى ذلك أن تركيا وآذربيجان تشكلان قاعدة قوية للمصالح الأميركية والأطلسية، معطوفة على الوجود الاستخباري القوي لـ"إسرائيل" في آذربيجان ضد إيران.
الجديد هذه المرة الذي لفت انتباه المراقبين، ومنهم السفير التركي السابق في باكو أونال تشيفيك أوز، هو موقع الاشتباك في منطقة طوفوز الآذرية التي تقع على الحدود بين أرمينيا وآذربيجان مباشرة وبعيدة جغرافيا عن منطقة قره باخ ولا صلة لها بالتالي بأزمة قره باخ. وهذا، برأي تشيفيك أوز، قد يفتح نقطة توتر جديدة بين تركيا وروسيا. كذلك تقع طوفوز على مقربة من الحدود الجورجية. ومن مزاياها الاستراتيجية، أنه يمر بقربها خط أنابيب باكو - تبليسي - جيحان الشهير للنفط والغاز وخط السكة الحديد الرئيسي والأوتوستراد البري الواصلان بين باكو وتبليسي.
منطقة طوفوز ليست منطقة متنازعا عليها بين آذربيجان وأرمينيا، بخلاف مناطق أخرى في قره باخ وخارجها، وهذا يعني أن التوتر الجديد يتجاوز بأهدافه ما سبق أن نظر إليه من عوامل تقليدية. الموقع الاستراتيجي لطوفوز دفع بالمحلل العسكري العقيد المتقاعد أونال أتاباي إلى القول إن من مصلحة روسيا توسيع جبهة الصراع ضد تركيا التي تضغط على روسيا في ليبيا وسوريا وشرقي المتوسط. واستجرار الضغط على تركيا بتحريك جبهة القوقاز مناسب نظرا إلى أن تركيا قد لا تستطيع تحمل فتح عدة جبهات عسكرية دفعة واحدة، فتكون جبهة القوقاز ورقة مساومة بيد روسيا تجاه تركيا ومن ورائها الولايات المتحدة في الملف الليبي.
لا شك أن روسيا في موقع الأقوى في الصراع في القوقاز نظرا إلى أن العلاقات بين باكو وأنقرة ليست مستقرة، حيث تنظر أنقرة - وفقًا للكاتب مراد يتكين - بحذر إلى التقارب الروسي الأذري. لذا تكتفي تركيا اليوم بالقيام بطلعات جوية عسكرية على الحدود مع أرمينيا وتقديم مساعدات لوجستية واستشارية وعدم التوغل في ردود قد تفضي إلى جرها إلى حرب ليست مستعدة لها. كذلك، فإن تركيا ليست مرتاحة كثيرا للموقف الأذري ويتسم سلوكها بالتردد، نتيجة اعتقادها أن باكو تلعب لعبة مزدوجة: تتحدث مع أنقرة بالتركية، وتتحدث مع موسكو بالروسية. والمنافسة الاقليمية المتعددة والمتناقضة سوف تقرر مصير ومستقبل الصراع بين آذربيجان وارمينيا.