نحو عقلنة فهم دور دول ’البريكس’ في الشرق الأوسط
حسام مطر
أدّت الأحداث السياسية والاقتصادية في العقدين الأخيرين الى تسريع عملية نقل مركز القوة الاقتصادية من "الثالوث” الأميركي – الأوروبي – الياباني باتجاه شرق آسيا بالتحديد والتي تحتضن أبرز الاقتصادات الناشئة. يظهر هذا التحوّل من خلال ظهور "قمة العشرين” (G20) بعدما انحصرت إدارة النظام الدولي منذ السبعينات بالدول السبع الصناعية الكبرى والتي انضمت إليها روسيا لاحقاً عام 1994.
وقد ساهمت الانتكاسات التي تعرضت لها الولايات المتحدة ما بعد غزو العراق وثم الأزمة المالية العالمية 2008، في رفع منسوب التحدي والجرأة والتعاون بين جملة من القوى الناشئة لا سيما ما يعرف بمجموعة "البريكس” (الصين – روسيا – الهند – البرازيل – جنوب أفريقيا)، وتذهب التقديرات الى أنه في العام 2040 ستتجاوز حصة دول "البريكس” للمرّة الأولى حصة "مجموعة الستة” في الاقتصاد الدولي.
البريكس، روسيا
مدار الحديث هو "عقلنة” فهمنا لدور "البريكس” في الشرق الأوسط. هناك سردية سائدة في الخطاب السياسي بأن دول "البريكس” هي جزء من ميزان القوى في الشرق الأوسط وذلك كجزء من "مواجهة مفتوحة” بين "البريكس” والولايات المتحدة على مستوى النظام الدولي ككل. المحصلة أن هناك مبالغة في تقدير دور "البريكس” ورغبتها وقدرتها على مواجهة النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ويبقى دور "البريكس” محدوداً في مواجهة الولايات المتحدة لأسباب عدة:
أولاً، تشترك هذه الدول في السعي لتحدي الهيمنة الغربية، إلاّ أن هذه القوى أيضاً تعيش حالة من التنافس الداخلي فيما بينها. مثلاً يحاجج باحث روسي عن انقسام البريكس بين محورين "روسي – هندي” و”صيني – برازيلي” كنتيجة للتنافس الجيوبولتيكي بين روسيا والصين والهند، رغم ازدياد التقارب الصيني – الروسي مؤخراً لأسباب عدة منها الضغوط الغربية الهائلة على موسكو إلاّ أن العملاقين الروسي والصيني محكومان للتنافس في آسيا الوسطى إضافة الى سيبيريا.
ثانياً، لا تشترك هذه الدول في موقف موحد من العلاقة مع النظام الدولي، فالصين مندمجة في هذا النظام ولا مصلحة لها بانهياره بل تسعى لتحسين دورها فيه كما حال الهند والبرازيل اللتين تطالبان بالحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، فيما تبدو روسيا أكثر جرأة في تحدي هذا النظام. كما لا تقدم هذه الدول رؤية موحدة لنظام بديل للوضع القائم. هذه الدول لا تزال في المراحل الأولى من تطوير العمل المشترك وخلق بدائل من خارج النظام الدولي حيث بدأت تتجه مؤخراً نحو إقامة صناديق تنمية بعيداً عن هيمنة صندوق النقد والبنك الدولي. بالمقابل تجهد واشنطن لـ "تدجين” هذه القوى ودمجها في النظام القائم وفق لائحة شروط أميركية تضمن استدامة تربع أميركا على عرشه.
ثالثاً، لا تشترك هذه القوى في طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، فهي علاقة عداء في العلاقات الروسية – الأميركية، وهجين من التحدي والمساكنة في العلاقات الصينية – الأميركية، وعلاقة تعاون شراكة بين الصين والولايات المتحدة.
رابعاً، لا تزال هذه الدول رغم ما حققته من نمو اقتصادي داخلي تعاني من مشاكل داخلية كبرى لا سيما على مستوى التنمية المحلية، استدامة النمو الاقتصادي واستقرار العملية السياسية. روسيا مثلاً تعاني من ضمور سكاني واقتصاد متقلب نتيجة اعتمادها على صعود أسعار الغاز والنفط. وعلى مستوى التنمية البشرية، تحتل الصين المركز 91 عالمياً، البرازيل 79، روسيا 57، جنوب أفريقيا 118، والهند 135 وفقاً لأرقام العام 2013. كما أن أنظمة هذه الدول تواجه تحدياً بخصوص مدى إمساكها بالسلطة، والصراعات الداخلية بما يدفعها للحذر من ارتكاب مغامرات كبرى في السياسة الخارجية.
خامساً، أغلب دول البريكس لا يمتلك مشروعاً أو رؤية للشرق الأوسط. الصين تحافظ على حد أدنى من التدخل كما جرت العادة، هي تستثمر في خلافات الجميع من أجل الحصول على مشتقات الطاقة بأسعار مناسبة، الى جانب "المشاغبة” على الدور الأميركي ولكن من خلف موسكو. روسيا هي الوحيدة التى تطور سياسة شرق أوسطية فاعلة ولكنها أيضاً من موقع دفاعي إلا أنها تسعى لتطوير شراكة إستراتيجية مع خصوم واشنطن بالتحديد إيران وسوريا، إضافة للانفتاح على قوى جديدة مثل مصر والعراق. بالمجمل البريكس شبة غائبة عن المنطقة، فيما الصين يقيدها الحذر والانتهازية، وروسيا ترهقها الأزمة في سوريا. دول البريكس مشغولة بتطوير سياسات إقليمية في محيطها المباشر وليس في الشرق الأوسط.
سادساً، على مستوى الحضور العسكري والثقافي والدبلوماسي، تتفوق واشنطن وحلفاؤها بأشواط على دول البريكس مجتمعة. لم تصل الدول الناشئة الى مستوى القدرة على إرسال قوات الى خارج حدودها بشكل كبير. الصين حتى الآن لا تمتلك إلا حاملة طائرات أوكرانية مستعملة تستخدمها للتدريب. روسيا بدأت مؤخراً العمل على تحديث قواتها العسكرية فيما وجودها في المنطقة محدود جداً ولا مجال لمقارنته مع الولايات المتحدة وإن كانت موسكو تحافظ الى حد بعيد على الردع النووي مع واشنطن. أما على مستوى الإعلام والرموز الثقافية فالحال أشد وضوحاً لصالح الولايات المتحدة التي تتغلغل في أغلب المجتمعات المحلية.
ليس المراد إنكار أهمية صعود الدول الناشئة ودورها في تقييد الدور الأميركي في الشرق الأوسط وخارجه، إلا أنه يجب الحذر في تحميل هذه القوى ما لا تحتمل. العالم لن يتغير بين ليلة وضحاها، بل نحن أمام مسار تاريخي طويل، ولسنا في حقبة مشابهة للحروب العالمية في القرون الماضية. القوى الدولية أصبحت أكثر حذراَ وعقلانيةً وتداخلاً من ذي قبل. لو لم تمتلك سوريا وحلفاؤها قدراً مناسباً من القوة لما نفعهم التحالف مع روسيا، ولوجدت روسيا مصلحتها في عقد صفقة مع الإميركيين بدل مواجهتهم. بناء موارد القوة الذاتية هو الأساس وحينها يمكن الرهان على التحالف مع الآخرين، والتحالف مع الآخرين يجب أن يستند الى قراءة واقعية لمصادر وموارد قوتهم. فنقطة البدء هي في تحقيق الاقتدار الذاتي، إذ إن الضعيف محكوم بالخضوع سواء لخصم او حليف.