الحياد ومخاطر الدعوة إليه في لبنان؟
العميد د. أمين محمد حطيط
في خضمّ ما يعانيه لبنان من حصار أميركي، وانقسام داخلي ومخاطر متعددة العناوين من صحية (كورونا) ومعيشية مع تفشي البطالة وتفلت الأسعار، ووضع أقل ما يُقال فيه إنه من أسوأ ما شهده لبنان منذ إنشائه بقرار من المفوض السامي الفرنسي في العام 1920، في خضمّ هذا الوضع المأسوي البائس أطلق البطريرك الماروني لأنطاكية وسائر المشرق من لبنان مواقف تتعلق بواقع لبنان ومستقبله بناها على مقولة «الشرعية المصادرة» داعياً إلى حياد لبنان، الحياد الذي يرى فيه علاجاً لكلّ ما يعتور لبنان من مآسٍ وما يتهدّده من مخاطر. فهل الحياد يشكل فعلاً علاجاً لأمراض لبنان ويمكن اعتماده؟
للإجابة على هذا السؤال نبدأ أولاً بالتوقف عند معنى الحياد وطبيعته وشروطه المحددة في قواعد القانون الدولي العام وقانون النزاعات المسلحة والعلاقات الدولية، تلك القواعد التي تقول بان حياد الدولة يكون واحداً من ثلاثة: أولها الحياد العسكري، او الحياد المؤقت وثانيها الحياد الاتفاقي او الحياد الدائم، وثالثها الحياد الإيجابي عبر الانضواء في تكتل دولي محايد بين معسكرين دوليين متصارعين ولذا يسمّى «عدم انحياز»، وقد تبلور عملياً في حركة عدم الانحياز التي شكلها في منتصف القرن الماضي الثالوث المصري الهندي اليوغسلافي (عبد الناصر، نهرو، تيتو) وكان لبنان عضواً فيها ولا يزال رغم أفول شمسها وتراجع دورها حتى شبه الاضمحلال بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وما سبقه من غياب القادة التاريخيين الثلاثة الذين شكلوها، وبالتالي إنّ الدعوة إلى الحياد المتقدّم الذكر والمسمّى أيضاً بالحياد الإيجابي لا يعني بأيّ حال هذه الحركة أو ما يشبهها ويبقى أن تكون الدعوة إلى حياد مؤقت أو دائم.
بيد أنّ الحياد المؤقت أو كما يسمى أيضا الحياد الحربي هو موقف تتخذه دولة ما بإرادتها المنفردة التي لا تتوقف عند إرادة الأطراف المتواجهة في نزاع عسكري، موقف تحفظ فيه الدولة علاقتها السلمية العادية بكل الأطراف من دون أن تنحاز لأي منهما ودون ان يشكل أي منهم خطراً عليها او يقتحم إقليمها لاستعماله في الحرب ضد الطرف الآخر. أي تعلن الدولة حيادها بنفسها وتتخذ من التدابير ما يقفل إقليمها بوجه كافة الأطراف، وتحفظ علاقاتها السلمية المتوازنة مع الجميع، فهل هذا ممكن في حالة لبنان الراهنة؟
قبل الإجابة نعرض للحياد الدائم او الحياد التعاقدي، الذي يختلف عن الأول لكونه لا يمكن أن يبرم بإرادة منفردة او يعطي مفاعيله دون ان ترضى الدول الأخرى به اقله الدول التي لها مصالح مع الدولة المزمع إعلان حيادها، فإعلان هذا الحياد وإحداث مفاعيله يشترط عرضاً (إيجاباً) من الدولة، وقبولاً من الدول الموجّه اليها ثم إبرام معاهدة يوقعها الجميع تنشئ حالة حياد الدولة المعنية. فإذا قامت هذه الحالة وجب احترامها، او فرض حمايتها لذا يجب على الدولة المعنية ان تمتلك القوة العسكرية الكافية للدفاع عن نفسها وعن حيادها.
فإذا راجعنا حالة لبنان على ضوء ما تقدّم نجد انّ إقامة حياد مؤقت او دائم تتطلب في الحد الأدنى إرادة وطنية جامعة تقرره، وقوة عسكرية مانعة لتحميه، وعلاقة سلمية مع كل دول الجوار والإقليم موسومة بعدم وجود صراعات معها حول أي من المصالح، ويُضاف اليها في حالة الحياد الدائم، قبول الدول المعنية به للتمكن من توقيع اتفاقية الحياد كما تفرض قواعد القانون الدولي العام، فهل تتوفر هذه الشروط في الحالة اللبنانية؟
نبدأ بالإرادة الوطنية الجامعة، ونرى ان اللبنانيين منقسمون عمودياً بين فئتين رئيستين، فئة تفاخر بالانتماء إلى الأمة العربية وتعتبر نفسها جزءاً منها، وفئة لا تستسيغ فكرة الانتماء ولا ترتاح إلى ممارستها، ويضاف إلى ما تقدّم وجود من يعيش انتماءه إلى الأمة الإسلامية أيضاً فضلاً عن العربية وهؤلاء يرفضون فكرة الحياد بين أمتهم وبين أعدائها لانهم يعتبرون مصالح الأمة هي مصالحهم، وهنا نذكر بموقف هؤلاء المعترض أصلاً على فكرة قيام لبنان المستقلّ عن محيطه ويرون أن قبولهم بالدولة المستقلة بعد زمن لا يعني تنازلهم عن انتمائهم، وعليه لا ينتظر من هؤلاء القبول بفكرة الحياد التي تترجم بالنسبة لهم انسلاخاً عن جسم الأمة عربية كانت او إسلامية، واعتقد انّ صاحب طرح الحياد انتبه إلى هذه الثغرة ولطف طرحه بالقول «بالحياد مع الاستمرار بالاهتمام بالقضايا العربية المشتركة». ولكن هذا التلطيف وهذا التراجع لا يغني ولا يسمن، فالحياد له قواعده وضوابطه فأما ان تلتزم ويكون الكيان محايداً أو لا تلتزم ولا يكون، أما سياسة «النصف نصف» فهي تلاعب على الألفاظ لا يعتدّ به، ولنقل صراحة ان تشكل إجماع لبناني على الحياد بمفهومه القانوني أمر مستحيل الآن وهنا ننوّه بموقف الرئيس العماد ميشال عون الذي واجه به صاحب الطرح قائلاً «الحياد يستلزم وفاقاً وطنياً» كلمة مختصرة قد تكون كافية لنعي الطرح كله.
أما الشرط الثاني المتمثل بامتلاك القوة الدفاعيّة اللازمة لحماية الحياد، قوة تكون وحيدة لا شريك لها على الأرض اللبنانية أي إقامة الجيش القادر على حماية لبنان، فهذا أمر شبه مستحيل الآن ويصعب تحققه في المستقبل في ظل 3 عوامل تحكم الوضع اللبناني أولها القرار الغربي بمنع لبنان من امتلاك تلك القوة التي تقيد التحرك الإسرائيلي وتمنع «إسرائيل» من تحقيق مطامعها في لبنان، ثانيها وضع لبنان المالي الذي يحول دون شراء الأسلحة والتجهيزات اللازمة لبناء منظومة دفاع مجدٍ، والثالث انقسام لبنان حول فكرة التحوّل إلى أسواق السلاح البديلة، وبالتالي يجد الجيش اللبناني نفسه محاصراً بضيق ذات اليد، والقيود الغربية، ورفض داخلي للبدائل ما يبقيه من غير سلاح يُعتدّ به لمواجهة المخاطر وتبقى القوة الدفاعية الرسمية الكافية حلماً لا يطال وتكون الحاجة إلى الحلّ الاحتياطي المتمثل بالمقاومة الشعبية أمراً لا مناص منه كما يرى رئيس الجمهورية العماد عون أيضاً، الأمر الذي يرفضه صاحب فكرة الحياد. وهنا انقسام آخر.
أما شرط إقامة علاقة سلمية متوازنة مع دول الإقليم لا عداء فيها فإنه أيضاً أمر مستحيل، فجيران لبنان اثنان دولة سورية الشقيقة، والكيان الصهيوني العدو الغاصب. واذا كانت العلاقة مع سورية محكومة بعوامل الأخوة والصداقة وبالاتفاقيات المبرمة معها والتي تنص على أنها علاقات مميّزة كما ورد في اتفاقية الطائف، فإنّ العلاقة مع «إسرائيل» عكس ذلك تماماً، فـ «إسرائيل» عدو للأمة التي ينتمي اليها لبنان ولا يغيّر من طبيعة هذه العلاقة إقدام بعض العرب على الصلح والتطبيع معها، كما أنها عدو للبنان تغتصب حقوقاً وتطمع بحقوق ومصالح في البر والبحر أرضاً وثروة وتنتهك السيادة وتهدّد مستقبل لبنان وجوداً ودوراً ووظيفة. وأيّ حياد يطرح قبل أن نستنقذ حقوقنا ومصالحنا من براثن «إسرائيل» يكون فيه انتحار ذاتي وخدمة للعدو، حقيقة وعاها صاحب الطرح كما يبدو وألمح إليها متأسفاً بالقول «للأسف إسرائيل عدو» وطبعاً أسفه لا يقدّم ولا يؤخّر في طبيعة العلاقة بل إنه ينسف فكرة الحياد التي يطرحها.
وأخيراً نصل إلى فكرة قبول الحياد من قبل مجموعة الدول المعنية بالعلاقة مع لبنان، وهو قبول يشترط استباقه بأمرين، تصفية العلاقة والنزاعات حول المصالح البينية ثم عرض (إيجاب) يتقدّم به لبنان من اجل ان يستدعي القبول والموافقة عليه من قبل الطرف الآخر. وهنا نجد ان ما يحكم علاقة لبنان بـ «إسرائيل» جملة ملفات خطيرة منها توطين الفلسطينيين والخروج من الأرض اللبنانية المحتلة والاعتراف بالحدود البرية دون مناورة لإعادة ترسيمها والإقرار بالحدود البحرية دون الطمع بمساحات من منطقة لبنان الاقتصادية، فهل تقر «إسرائيل» بهذه الحقوق؟ نسارع للقول طبعاً لا. وها هي صفقة القرن تؤكد بكل وضوح انّ الحلّ الذي تطرحه يطيح بمصالح لبنان تلك، وبالتالي أي سلام يبتغى مع «إسرائيل» في ظل أطماعها تلك؟ أما سورية فيكفي ان نعود معها إلى مواقف سياسية أعلنت من قبل مسؤوليها لنجد أنها كلها تقطع برفض القبول بحياد لبنان ما يقود إلى القول إن الجوار غير جاهز للقبول بهذا الحياد أي يتعذر قيام الحياد الاتفاقي او الحياد الدائم.
حقائق اعتقد أن على مَن طرح الحياد ان يتوقف عندها، وبالتالي يكون من الأفضل له وللبنان ان يتجنب طرحاً مستحيلاً في مثل هذا الظرف بالذات، إذ لن يكون للطرح أثر او مفعول إلا زيادة الانقسام والتشرذم وإضافة ملف خلافي جديد تستفيد منه أميركا في خطتها الرامية لإنتاج فراغ سياسي مترافق مع الحصار والتجويع المنتج للفتنة والاقتتال الداخلي والممهّد لعدوان «إسرائيلي» على لبنان.