مستقبل "العراق المقاوم"
سعد الله زارعي
العراق عمق ستراتيجي لتغييرات المنطقة ولاسيما للعالم العربي. فلو القينا نظرة لاوضاع البلدان العربية لوجدنا ان العراق يمتاز بوضع خاص. فهو من الناحية السياسية الاكثر ديمقراطية ومن حيث الجانب الاقتصادي متعافى، كما وتنعكس اسقاطاته المعرفية على حاله الثقافي، ناهيك عن عراقة حضارته فسجل ذلك حاصلا وفيرا من النخب السياسية والثقافية.
وهذا هو سر انعكاس الهزات الداخلية للعراق على محيطه العربي، مما يؤهله ليكون البلد العربي الاول. فلا غرابة ان تحاول القوى الاجنبية لطمس اي صعود بين الدول العربية يستقطب الجميع كمحور يقتدى.
فبذلت (القوى الاجنبية) لاضعاف العراق حاله كحال دولة مصر منفكا عن الركب.
وسأسلط في هذا الموضوع امثلة تجليه اكثر؛
1 ـ فخلال قرن من الزمن، يندر ان ترقى دولة من المجموعة العربية. فعلى سبيل المثال برزت مصر في مختصر عمرها اي منذ عام 1951 والى عام 1971 لتلعب دور القطب الاوحد من بين الدول العربية حتى استجمعت شتاتها وتصبح قوة يحسب لها الحساب.
فمن تأميم قناة السويس والى اسقاط النظام الملكي المرتبط ببريطانيا، والمساهمة في تاسيس منظمة عدم الانحياز، والتصدي للاحتلال الفلسطيني، واقامة دولة جمهورية والحد من النفوذ الغربي في الدول العربية، فالهمت الدول العربية استرجاع مجدها والاعتعزاز بهويتها.
الا ان موت "جمال عبدالناصر" كان السبب في فرط العقد، فلم تبق من حركة عبدالناصر سوى الذكريات. حتى ان مصر نفسها إنكفأت لتتقوقع في همها ووضعها الداخلي. فتحولت من بلد ينادي بالديمقراطية الى اسير العسكرتاريا بمجيء السادات ومن بعده مبارك واليوم السيسي.
حكومات دكتاتورية اهملت الشعب، فصارت مصر ضعيفة منزوية ولا ينقل عنها خبر هام بعد ان عرفت برائدة النهضة العربية في مواجهة الغرب والاحتلال الصهيوني.
وكان كذلك حال سائر الدول ـ كالسعودية، والسودان، والجزائر ـ التي خسرت مواقعها المهيئة بالقوة لتعيش وضعا مأساويا. مما يسمح لنا القول ان الغرب قد نجح في اضعاف الدول العربية. بالطبع هنالك جذوة في نفوس الشعوب تهيب بهم للقيام من جديد لتغيير الوضع الفعلي. فتخضر مرة تحت يافطة الربيع العربي أو الصحوة الاسلامية بعزائم صادقة، واخرى مزيفة بكرة مزيفة تحت شعار الخلافة العربية في مشروع غربي ـ تكفيري. اذن هنالك بين اوساط الشعب العربي بارقة أمل لانجاب "المنجي العربي".
2ـ من بين الدول العربية يتمتع العراق بخصوصية إيفاء دور "المنجي العربي". فللعراق ماض حضاري يتخطى خمسة بل سبعة آلاف سنة. منذ حضارة آشور، وسومر، وأكد، ومن هذه الارض إعتلى رسل الله هامة التاريخ مبشرين ومنذرين مثل سيدنا ابراهيم الخليل (ع). كما وتقلد العراق وسام معسكر نشر الاسلام في صدره الاول. وفي وقت ضج الجميع من ظلم بني امية وعاصمتهم الشام، إنبرى العراق ليقف بوجه التعسف الاموي لتنطلق شرارة (الرضا من آل محمد) من بغداد لتحكم ستمائة عام، وحين علا منسوب الطغيان في قصور الحكام العباسيين ليفوق ظلم بني امية، شهد التاريخ مرة اخرى قيام اهل العراق منتفضين على بني العباس. وهكذا لعب العراقيون الدور الاكثر تأثيرا من بين التيارات العربية لمواجهة الخلافة العثمانية، حتى إنقضوا وعليها، ورغم ان العراق ساهم في تلك الفترة لانجاح مشروع مناهض للاسلام، حين انخرطوا تحت مظلة البريطانيين، واسقطوا الامبراطورية العثمانية الاسلامية.
ان ما يلفتنا هو الشعور الدافع للعراقيين في التضحية، فيكون مصيبا حينا و في غير محله في أحيان أخرى. فالعراقيون على العكس من المصريين وأهل الحجاز، وعلى العكس من صوفية افريقيا، وعلى العكس من الدول الوليدة من اتفاقية "سايكس بيكو"، يعتبرون انفسهم اصحاب حق فيما ركنوا الاخرين جانبا. فان كان هناك امل لانشاء دولة قوية من بين الدول العربية، فلاشك يعقد الامل على العراق.
فعلى سبيل المثال خاضت كل من العراق ومصر وتونس وليبيا، في مخاض متقارب ـ 2003 ـ والى 2013 ـ ولادات حكومات جديدة. فتمكن العراق من الاستمرار والثبات، فحافظ على ما اسسوه من حكومة عام 2005 على العكس من مصر ... وعبر العراق ازماته الحادة، فيما فشل الاخرون من انشاء حكوماتهم لتتحول الى صراعات داخلية، مثلما يحصل الان في ليبيا من الاختلاف وتقسيم وحروب دموية. فالمنحنى الذي أرتسم لنا خلال عقد مضى يعبر عن صمود العراقيين اكثر من غيرهم.
3 ـ ان الاميركان وضعوا نصب اعينهم سيادة العراق، بسياستهم العدائية والابتزازية في المنطقة، ويرون ان العراق ينفرد كلاعب اساس لتحقيق مطامعها، و لا تتمتع غيرها من الدول كالسعودية وتركيا والكيان الصهيوني، بايفاء هذا الدور. ولذا تصر اميركا على بقائها في العراق والابقاء على القاعدتين العسكريتين الكبيرتين؛ قاعدة حرير في اربيل، و قاعدة عين الاسد في الانبار. وحين ووجهوا بمعارضة عراقية جادة هذه الايام عمدوا الى اساليب شتى كي يضمنوا بقاء عسكرهم في العراق، فمن جهة وعد بوضع اقتصادي واحد و من جهة يلوحون بعصابات داعش الارهابية، بينما تعارض اميركا بالاساس تحويل العراق الى بلد كمحور لاقتدار عربي ولذا فهم يختلقون التصادمات الداخلية من سياسية وامنية واجتماعية كي يبقى العراق منشغلا بنفسه.
ان الاميركان على علم بان العراق اذا اصطف في محور المقاومة سيكون مدعوما من قبل ايران ستراتيجياً وسيتحول العراق بسرعة الى اهم قطب عربي اذا نقلت له ايران القدرات العلمية والتكنولوجية والاعتقادية.
فان وصل العراق الديمقراطي والذي يتمتع بمصادر عظيمة و اراضي خصبة الى استقرار اقتصادي وسياسي وامني، وتتفعل فيه خصوصية إباء الضيم وطرد اي تدخل غربي، فسيكون العراق قبلة الشعوب والحكومات والنخب العربية في اسيا وافريقيا، وستنقلب الطاولة على اذناب الغرب ـ كالسعوديين والصهاينة ـ وينزلوا من عروشهم، ليتم تأسيس القوة الاسلامية والعربية لتتحول الى اكبر قطب في العالم. انهم يعلمون جيداً بان الدول العربية اذا تواصلت مع بعضها ـ وهي امنية تأريخية ان تتأسس عبارة "العالم العربي" و"الامة العربية" والتي لم تتحقق من قبل، وهي نابعة من روح التراث العربي المشترك ـ فعديد دولها 22 دولة، تقع 12 منها في آسيا وعشرة في افريقيا ليشكلوا مساحة قدرها 130 مليون كيلو متر مربع، وهي اكبر من مجموع مساحة اوروبا واميركا ـ 10مليون و8/9 مليون كيلومتر مربع بالترتيب ـ ، فهي حاضنة واسعة، وحين نواجه الاحصاءات "مؤسسة بيو" والتي تعلن ان كراهية العرب من الغرب تصل الى 70 وحتى 95 % بين ابناء الدول العربية، سيتلفت الغرب الى خطورة تواصل الدول العربية مع بعضها بتشكيل القوة العربية التي هي ترجمة قومية للقدرة الاسلامية. وتعتبر اميركا مفتاح فصل القوة العربية عن القدرة الاسلامية ينحصر في التفريق بين العراق وايران.
اذ ان في ايران تم التوصل الى "القدرة السياسية"، و"مناهضة الاستكبار"، وان التحاق العراق الجمهورية الاسلامية سينقل له هذان الاصلان للعراق ومنه الى الحاضرة العربية والمحيط الاسلامي.
ان ما يؤسف له اساءة بعض الشخصيات والاحزاب في العراق الظن بالتحاق العراق بمحور المقاومة، معتبرين هذا الامر ثقيل على اهله وي ويعرضه لضغوط لاتطاق، في الوقت الذي سيسارع التحاق العراق بمحور المقاومة في استرجاع العراق لقدراته ويضعه في خانته المناسبة كقوة عربية.
ومن المناسب ان يلقي الاخوة العراقيون نظرة لمصر وتجربتها لخمسين عاما مضن، فيشاهدوا هل ان مصر عبد الناصر كانت مقتدرة ام مصر والجنرال سيسي، كما ويلقوا نظرة الى تجربة "مصر فترة حكومة مرسي" و"اليمن في ظل انصار الله"، ليكتشفوا، ان مصر مرسي قد انهارت حكومتها بعد عام بتيار غير شديد، فيما يمن انصار الله، وبالرغم من الامواج الثقيلة من العالم والمنطقة بقيت صامدة، وافشلت مشاريع اميركا والسعودية.
فان التفت العراقيون ان هناك مؤامرة، صهيونية ـ غربية، تحاك لتدمير بلدهم، كما حصل في مصر سبعينيات القرن الماضي، لما اثرت فيهم اي وسوسة اميركية. وعليهم ان يكتشفوا الاعيب اميركا في تبرير بقائها الدائم في العراق كي لا يخسروا كالمصريين مستقبلهم. وان يعلم العراقيون بان الاميركان الذين يصرون وبذلة ان يعطيهم العراق اذن ابقاء قواتهم في ساحتين قوميتين ـ المنطقة المنطقة الكردية والمنطقة السنية ـ، ولاجل ذلك وعدوا بتقديم مساعدات اقتصادية، ولاجل ذلك وعدوا بتقديم مساعدات اقتصادية، وانذروا باعادة عصابات داعش لنشاطاتها، هي نفسها التي ارادت يوماً ابتلاع العراق باكمله، حتى دون اخذ رخصة من الام المتحدة أو ان تشاطر العراقيين رأيهم.
وكان العراق الذي تم احتلاله ذهاب من قبل 300 الف مجند غربي هو عراق صدام حسين، اذ حسب وثائق مؤكدة كان يتسلم مرتبة من السي آي ايه منذ ان كان طالباً جامعياً في القاهرة والى يوم انهياره، فيما هذا العراق الذي تتوسل اميركا بابقاء خمسة آلاف مجند فيها وتتجلئ لخدع الوعود والوعيد، هو عراق تعاضد لما يقرب من عقدين مع المقاومة والمجمهورية الاسلامية.
4 ـ ان العراق سيجد سبيله، وسيتجاوز هذه الظروف المبهمة والتي يكرسها بعض من يحيك له المكائد. وسيتشكل عراق مقتدر، وعلى العكس مما تفكر له NIC ـ وكالة الامن القومي الاميركي ـ سيندمج العراق في جبهة اقليمية، ومنظومة على وشك الانسجام "بمحورية آسيوية"، ولابد ان نلتفت الى مدى اهمية هذا النهج فان هناك ما هو ند لهذا النهج بما يفتعله العدو مرارا من سيناريوهات تضليلية ليعيق عن الحقيقة زوايا النظر.