تركيا.. خيبة حلم إمبريالي!
صادق النابلسي
لم يغالِ المؤرخ البريطاني الشهير ديفيد فرومكين وهو ينبش جذور الأتراك في قول ما يعتقد بأصدق ما يكون القول، حين وصف أفعالهم بالغِلظة والشدة والقسوة والبطش عندما كانوا يبسطون حكمهم ونفوذهم على أكثر من عشرين قومية.
ذرائع وتبريرات خرجت بعد ذلك بالكاد أخفت أدلة وشواهد دامغة عن مجازر فظيعة اُرتكبت بحق الأرمن والعرب وشعوب أخرى، لم تثر حفيظة المسؤولين الأتراك بل ووجهت الإزدراء. في مستهل العام 2011، حصلت تغيرات دراماتيكية في منطقة "الربيع العربي” دفعت تركيا إلى الابتعاد عن قفصها الخليق بها بحسب وصف كاتب أميركي، والتوجه إلى العالم العربي عبر بوابات متعددة لا للاستثمار الاقتصادي والتطبيع الثقافي، وهما في صلب الخطة التي سماها داوود أوغلو بـ”رؤية تركيا”، وإنما لملء الفراغ الجيوسياسي والجيوستراتيجي الذي نشأ من اختلال التوازن بين دول المنطقة، ومن حالات الفوضى والنزاعات بين مختلف الهويات القومية والدينية. مع إرهاصات "الربيع”، بدا أنّ الفرصة مؤاتية لزعماء حزب "العدالة والتنمية” لتحويل تركيا من دولة مركزية إلى قوة عالمية. عملية نفسية ضخمة قامت بها الدعاية التركية المتحالفة مع كارتلات إعلامية عربية تحتكر الفضاء لصنع القبول والموافقة على سياساتها العدوانية تجاه سوريا ومصر على وجه الخصوص، لجأ معها حزب "العدالة والتنمية” إلى إجراءات تقوم بموجبها تركيا بتفويض الأعمال الهمجية والإرهابية المروعة إلى "وحوش آدميين” تم تدويرهم من أشدّ الأوساط رجعية في العالم الإسلامي والغربي. ثلاث سنوات، تتعرض خلالها سوريا لحملات من التنكيل والبربرية، تركت البلاد مشاعاً للخراب في إطار أيديولوجية إسلاموية تحاكي سوابق تاريخية وفيرة تشتمل على ممارسات سلاطين كانت لديهم مطامح توسعية وتسلطية مماثلة لتلك التي يحملها الجيل الحالي من العثمانيين الجدد. إنّ سجل القتل والتدمير خلال الأزمة السورية الراهنة تناقلت وقائعه معظم وسائل الإعلام الغربية ومنظمات حقوق الإنسان الدولية ونشطاء عديدون على أوسع نطاق ومع ذلك أرادت تركيا طمسه وتحويل الأنظار إلى النظام السوري وحده في عمليات العنف الحاصلة، وغض النظر عن الجماعات والقوى التي دأبت على تسليحها وتدريبها حتى بسطت نفوذها على مناطق شاسعة من سوريا إلى العراق، والتي أفلتت لاحقاً من طوق الاحتواء المضروب حولها.
المفارقة أنّ أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء الحالي كان قد رسم في مقالة له في "فورين بولسي” العام 2010، المبادئ التأسيسية للسياسة الخارجية التركية. فأكد على التوازن بين الأمن والديموقراطية، وبالالتزام الجوهري بالمحافظة على علاقات إيجاببة من دون مشاكل مع دول الجوار، وتعميق مفهوم ديبلوماسية السلام الوقائية التي تعني التوسط لمنع الصراعات، وبناء سياسة خارجية متعددة الأبعاد تختزن كامل مجالات التعاون مع الشركاء من دون الدخول في منافسات ومزاحمات ندّية، وأخيراً تقوية أذرع الديبلوماسية الإيقاعية التي تتضمن انخراطاً كلياً في مسيرة المنظمات الدولية لممارسة دور فعال ومسؤول تتحمل فيه تركيا مع بلدان عظمى أخرى مستلزمات الاستقرار والنظام في العالم. لكن تركيا وجدت بالتناقضات والنزاعات الدموية التي اضطلعت بمهام أساسية لتأجيجها، والتي فتحت الباب أمام كل أنواع فقدان العقل، فرصة انقلابية مؤاتية على هذه المبادئ التي لا طائل من الأسف عليها، ولحظة تأسيسية نادرة للعودة إلى النزعة الامبريالية العثمانية، حيث يظهر ذلك جلياً بما كتبه أحمد داوود أوغلو في كتابَيه: "الأزمة العالمية” و”العمق الاستراتيجي” عن دور تركيا الجيوسياسي؛ إذ يعتبر أنّ السيطرة على الأحواض الثلاثة التي تحدّ بلده "الحوض الأرضي القريب” الذي يشمل البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، "والحوض البحري القريب” الذي يتألف من البحر الأسود وشرق المتوسط والخليج الفارسي وبحر قزوين، "والحوض الأرضي البعيد” الذي يضم شمال أفريقيا وجنوب آسيا وأسيا الوسطى وشرق آسيا، سيؤدي إلى السيطرة على العالم. وهو بذلك يحاول استعادة أبيات شعر شهيرة حفرت عميقاً في وجدان الأتراك تقول: "من يسيطر على تركيا يسيطر على الأحواض، ومن يسيطر على الأحواض يسيطر على أوراسيا، ومن يسيطر على الأفروأوراسيا يسيطر على العالم”. المرحلة الحالية بنظر أوغلو تحرر تركيا وترتقي بها إلى مصاف التاريخ المثالي، والافتتان بها ليس إلا لكونها دولة محورية مركزية تنزع بحكم موقعها وعمقها الاستراتيجي للعب أدوار قيادية في المجالين الإقليمي والدولي، ثم إنّ خصائصها الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوثقافية إضافة إلى قوة ذاتها الحضارية تُلزم القادة الأتراك بإعادة تقييم سياساتهم وخياراتهم الاستراتيجية، وذلك بإخراج تركيا من حالة الهامشية والطرفية في العلاقات الدولية إلى ما يناسب إمكاناتها السياسية ومكانتها الدولية وعمقها التاريخي.
لقد وجد حزب "العدالة والتنمية” منذ تسلمه الحكم العام 2002 أنّ إصلاح العلاقات مع الغرب وبناء تحالفات جديدة يجب أن لا يعرقل مسار إخراج تركيا من الوضع الهامشي الذي فرض على الأتراك تبعية مرهقة وفظة للـ”ناتو” ولو أدّى ذلك إلى شقّ مسالك خطرة. يقول أوغلو: " إنّ تكوين تركيا الإقليمي المتنوع يُضفي عليها قدرة المناورة في مناطق عدة في وقت واحد”. وبالتالي بمقدور تركيا في ظل التحولات العميقة التي طرأت على الخارطة السياسية الإقليمية والعالمية استغلال مزاياها الآنية لخلق نظام شرق أوسطي جديد. صحيح أنّ حكومات حزب "العدالة والتنمية” وسعت من حجم الطبقة الوسطى في البلاد، وأنشأت اقتصاداً إقليمياً مهيمناً يسعى لتحويل تركيا إلى "برازيل الشرق الأوسط”، حتى كتب أحد الخبراء في معهد واشنطن (Soner Cagaptay) أنّ الازدهار الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ المعاصر يترافق "مع شعور قويّ بالعجرفة لدرجة ظنّ فيها رئيس الوزراء الأسبق والرئيس الحالي رجب طيب إردوغان، ووزير خارجيته السابق أحمد داوود أوغلو، أنّهما يستطيعان بمفردهما إعادة تشكيل الشرق الأوسط”.
في حمى التناقضات الإقليمية، خرجت تركيا سريعاً من مبدأ "تصفير المشكلات” مع دول الجوار لتدخل على خط لعبة التوازنات الدقيقة لا كشريك في معادلة "التمكين المتبادل” مع دول حليفة لها مصالحها ودوافعها في رسم سياسات وخرائط المنطقة، وإنما لقطع الطريق على أي تحدّ لنفوذها ومكانتها الاستراتيجية الإمبريالية. أدركت تركيا الأردوغانية أنّها قوة جذب لمشروعين استراتيجيين متنافسين (إدارة الفوضى الأميركية وإدارة التوحش الداعشية)، وانها الوحيدة القادرة أن تفيد من مآزقهما ومن انهيار قواعد الأخلاق ومبادئ القانون الدولي على ساحات الصراعات الدولية، إذ لن يكون هناك من يعترض على سياسات تركيّة مسعورة في وقت يمارس فيه أصحاب استراتيجية الفوضى البناءة وأصحاب استراتيجية إدارة التوحش كل الفظاعات للوصول إلى أهدافهم.
لكن بعيداً عن تبسيط الديناميات التركية والتضليل في فهم دوافع وسياسات أنقرة ومناوراتها، فإنّ حقائق الميدان تشير إلى أنّ خيارات أردوغان وأوغلو أتت بنتائج عكسية وأسفرت عن أوضاع كارثية، حتى تأكد لجميع أركان حزب "العدالة والتنمية” أنّ طرق عبورها إلى الشرق الأوسط باتت بمعظمها مقفلة، فكيف إذاً تستقيم رؤية تسعى لاستعادة أمجاد الخلافة العثمانية.
فرومكين نفسه بعد دراسته المتعمقة لطبائع الشعب التركي يصل إلى خلاصة مذهلة يقول فيها: "لقد برع الأتراك في فنون الحرب ولم يبرعوا في فن الحكم”!