باي باي اميركا.. جغرافيا العالم تُرسم من جديد!
محمد صادق الحسيني
في سبعينيات القرن الماضي، وفي معرض حديث صحفي له حول الصراع العربي الاسرائيلي، قال مستشار الامن القومي آنذاك، زيبينغيو بريجنسكي، باي باي PLO، اي وداعاً منظمة التحرير الفلسطينية ....!
وهو بالطبع كان يقصد وداعاً للقضية الفلسطينية وثوارها البتة ...!
ولكن القضية الفلسطينية والمنظمة لازالت حية وحملة راية النضال والتحرير صاروا ذوي بأس اشد، رغم انف بريجنسكي ، وحاملي تلك الراية الهادفة الى تحرير فلسطين واعادة شعبها الى ارضه المغتصبة واقامة دولتة المستقلة باقين على هذه الارض، بينما ذهب بريجنسكي وهو يمنّي النفس بزوال المنظمة ورواد التحرير...!
وها نحن اليوم نصل الى لحظة الحقيقة، التي تعكس موازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، والتي تجعلنا نقول : باي باي اميركا . نودع هذا البلد الذي هزم في كل معاركه بعد الحرب العالمية الثانية وها هو يُهزم في معركة وباء كورونا المنتشر في ارجاء العالم، ليس فقط من خلال فشل الادارة الاميركية في التصدي للوباء، على ارض الولايات المتحدة، وانما من خلال الفشل الأكبر، على صعيد العالم اجمع، الذي لم يفاجأ بهذا الفشل .
فعندما يقوم الملياردير الصيني، جاك ما ( Jack Ma )، مؤسس وصاحب شركة علي بابا للتسوق الالكتروني، بتقديم ثمانين مليون دولار لحكومة أوكرانيا لمساعدتها في التصدي لوباء كورونا، في الوقت الذي لم تقدم فيه واشنطن لهذه الدولة، التي تحتاج المساعدة، سوى مليون ومائتي الف دولار، فان هذا يعني الكثير ...!
اذ ان النشاط والحضور الصينيين في أوكرانيا لا يقتصر على هذا الملياردير وانما يتكامل مع نشاط الدولة الصينية، التي تستثمر أموالا طائلة في مجالات اقتصادية عدة، في هذا البلد الاوروبي الصناعي .
علماً ان اهم تلك الاستثمارات هي تلك التي لا زالت قيد التفاوض، بين الحكومة الصينية وتلك الاوكرانية، حول شراء الصين للجزء الأكبر من المجمع الصناعي الاوكراني، الغاية في الاهمية، وهو مجمع : موتور سيخ Motor Sich . علماً ان هذا المجمع يضم احدى اكبر واهم مصانع محركات الطائرات وتوربينات الغاز، التي تستعمل في محطات الطاقة، في العالم كله .
وانطلاقاً من هذا المثال، على الدور الصيني في مساعدة الدول المحتاجة في مواجهة وباء كورونا، فلا بد من الاشارة الى بعض العناصر الهامة، التي ادت الى هزيمة الولايات المتحدة في الحرب العالمية البيولوجية التي لا زالت بعض معاركها في أوجها او على اشدها . ومن اهم تلك العناصر ما يلي :
1. عدم امتلاك الولايات المتحدة لقاعدة البيانات اللازمة للتصدي لهذا الوباء، بسرعة ونجاعةٍ، كما فعلت الصين . اما سبب عدم امتلاكها لهذه القاعدة، التي تسمى : " قاعدة البيانات الضخمة، او Big Data Base "، فيعود الى عدم امتلاكها للتكنولوجيا الضرورية لهذا الامر . وهي التكنولوجيا التي يطلق عليها تكنولوجيا الجيل الخامس، او تكنولوجيا ( 5 G )، وما علينا الا النظر الى تصرفات الولايات المتحدة تجاه شركة هواوي، رائدة هذه التكنولوجيا في العالم، والحرب الشعواء التي تشنها ضدها على مستوى العالم . خاصة وان واشنطن تعلم تمام العلم ان من يمتلك هذه التكنولوجيا هو من سيمتلك كرسي القيادة في العالم اجمع .
الصين استثمرت في قطاع المعرفة والعلوم وتطوير التكنولوجيا وتأهيل القوى البشرية، الضرورية لإدارة الحياة البشرية، في الصين وغيرها، مستقبلاً .
اما الولايات المتحدة فقد استثمرت او استنفذت قدراتها المالية، ومنذ بداية الستينيات وحرب فيتنام في القرن الماضي وحتى اليوم، في سلسلة حروب عبثية فاشلة جعلتها اقرب الى الدولة الفاشلة غير القادرة على تأمين الكمامات حتى للأطباء الأميركيين في اهم المستشفيات الاميركية وليس فقط في المستشفيات الحكومية البائسة .
2. عدم اقتصار الفشل، في مواجهة وباء كورونا، على الولايات المتحدة فقط وانما امتداده الى أدواتها، في العالم اجمع . وهنا نشير بشكل محدد الى كلٍ من :
الاتحاد الاوروبي .
حلف شمال الأطلسي .
فعلى صعيد الاتحاد الاوروبي، وعند بدء اجتياح الوباء للدول الاوروبية، وعلى رأسها إيطاليا الاكثر تضرراً، امتنعت بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الاوروبي عن تقديم اي دعم للحكومة الايطالية . لا بل ان حكومات مثل الحكومة الالمانية والهولندية قد منعت شركات القطاع الخاص من بيع مستلزمات طبية لإيطاليا وهي في أمَس الحاجة اليها . وكذلك فعلت الولايات المتحدة طبعاً، والتي لم تكتفِ بذلك، بل قرصنت كميات كبيرة من المستلزمات الطبية من شركات ايطالية، ونقلتها الى الولايات المتحدة بواسطة طائرات النقل العسكرية الاميركية، التي لا تخضع لرقابة الدولة الايطالية .
كما استخدمت دول الاتحاد الاوروبي هذه السياسة تجاه اسبانيا ودول البلطيق، التي لم تجد من يقدم لها المساعدة سوى روسيا والصين، تماماً كما حصل مع إيطاليا، عندما اقامت روسيا والصين جسرًا جوياً نقل كميات ضخمة من المساعدات الطبية، الى جانب مئات الكوادر الطبية والاختصاصيين في الحرب البيولوجية والكيماوية والنووية ( مهمات تطهير وتعقيم المستشفيات والمنشآت العامة ).
ولعلنا نذكر قيام الرئيس الصربي بتقبيل العلم الصيني، كتعبير عن عمق شكره للصين حكومة وشعباً، وكذلك قيام الكثير من الإيطاليين باستبدال علم الاتحاد الاوروبي بعلم الصين او روسيا .
وهو ما يعني فشل الادارة الاميركية، السياسية، في أوروبا في تثبيت او تعزيز نفوذها في هذه القارة، الامر الذي اضطرها للطلب من المسؤولين الألمان وغيرهم من التحرك تجاه دول البلقان لعدم افساح المجال لمزيد من تعزيز النفوذ الصيني الروسي في هذه المنطقة من العالم . وقد اجرت المستشاره الالمانية سلسلة اتصالات مع حكومات دول البلقان ثم أعلن الاتحاد الاوروبي عن تشكيل هيئة، اسماها : حملة المجموعة الاوروبية ( Europe Team Campain ) لمساعدة تلك الدول .
اما على صعيد حلف شمال الأطلسي، الأداة العسكرية للولايات المتحدة في أوروبا والعالم، فلا بد من التأكيد على ان فشله لم يكن اقل من فشل الاتحاد الاوروبي، في التصدي لوباء كورونا، فبدلًا، من قيام قواعده العسكرية، المنتشرة في كل الدول الاوروبية، بما في ذلك دول البلقان، بتقديم المساعدات للدول المحتاجة، وبفتح مستشفياته العسكرية لمعالجة المصابين بالوباء، فان هذا الحلف قد صمَّ آذانه واغلق عيونه عما يحصل في دول تواجد قواعده .
وهو الامر الذي جعل كلاً من الصين الشعبية وروسيا تنطلق للامساك بزمام المبادره في تقديم المساعدات الطبية والتقنية لكل الدول المحتاجة . حيث أرسلت وزارة الدفاع الروسية والصينية عشرات طائرات النقل العسكرية، محملة بالمساعدات، وكان من بين الدول التي تلقت مساعدات من هذا النوع الولايات المتحدة نفسها .
3. ولكن الامر لا يقتصر على المساعدات الطبية، المقدمة من الصين الشعبية وروسيا وجمهورية كوبا الى الدول التي احتاجت لها، بل يتعدى ذلك الى الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاستراتيجية، على صعيد العالم كله . اذ ان هذا الدور والحضور الدولي الواسع الذي قامت به كلاً من الصين الشعبية وروسيا يعزز نفوذهما ودورهما الدوليين، وعلى كل الاصعدة .الامر الذي يضع الموقع الاميركي في الدرجة الثانية، من حيث التأثير على السياسات الدولية وبالتالي على طرق وأساليب حل الصراعات الدولية القائمة حالياً . كما ان هذا الواقع يخلق الظروف الموضوعية الضرورية لهندسة العلاقات الدولية على أسس جديده، او تغيير قواعد الاشتباك كما يقال بلغة العسكريين، ونعني بأسس العلاقات الدولية الجديدة تلك القائمة على التعاون الاقتصادي والتفاهم المشترك واحترام قواعد القانون الدولي الناظمة لكل العلاقات الدولية .
وهو الامر الذي سيقود الى تغيير جذري في كل مجالات حياة المجتمع البشري، والى وضع افضل مما هو عليه الآن، خاصة وان التكنولوجيا المعلوماتية الجديدة سيكون لها الدور الاساسي، في كل الخطط والعلاقات المشتركة بين البشر في المستقبل، والتي من بينها وسائل وأدوات الانتاج في القطاع الاقتصادي.
4. وبالنظر الى التراجع الذي شهده الدور الاميركي وأدواتة الاوروبية، على صعيد النفوذ في العالم كما في مجال التطور العلمي التكنولوجي، فقد اقترح الكاتب الاميركي دانييل بي وايديخ ( Daniel P. Vajdich ) في موضوع نشره في مجلة ذي ناشيونال انترست الاميركية، بتاريخ ١٨/٤/٢٠٢٩، على الادارة الاميركية القيام بحملة ديبلوماسية دولية واسعة، بالتعاون مع الدول الاوروبية، لاستعادة النفوذ الاميركي المتراجع، بعد الاداء الصيني الروسي في أزمة كورونا، وما نتج عنه من حقائق دولية جديدة . وقد اقترح هذا الكاتب ان توجه الادارة الاميركية رسالة مشتركة، الى كل الدول التي سيشملها هذا التحرك الديبلوماسي، تنص على :
ان الادارة الاميركية مهتمة ومعنية بالمصاعب التي تواجهونها .
•ان الادارة الاميركية تقدم وستواصل تقديم المساعدات إليكم حتى تحقيق النصر على هذا العدو المشترك .
وهذا كلام جميل، الا ان " العين بصيرة واليد قصيرة " كما يقول المثل . فالملياردير الصيني بمفرده قدَّم ٨٠ مليون دولار مساعدة لاوكرانيا بينما اقتصرت مساعدة " أغنى دولة في العالم " على مليون ومائتي الف دولار فقط .
وهذا يعني ان دولة تعاني من عجز في الموازنة يفوق التريليون ونصف الترليون دولار وديوناً تزيد على ٢٤ تريليون دولار باتت قادرة على اجراء بعض الاتصالات الهاتفية ولكنها بالتأكيد ليست قادرة على القيام بدور دولي في تقديم المساعدات .
فأيام الجسر الجوي الاميركي، الى برلين الغربية سنة ١٩٤٨ /١٩٤٩، حيث نقلت طائرات سلاح الجو الاميركي ما يزيد على مليونين ونصف المليون طن من المساعدات الغذائية لتلك المدينة، قد ولَّت الى غير رجعة . ومن هو عاجز عن تقديم المساعدات لمواطنيه العاطلين عن العمل لن يستطيع مساعدة الدول البعيدة ويستعيد الهيمنة عليها .
وكما يقول الايرانيون الذين يصطفون في مواجهة فريدة من نوعها مع من يسمونها الشيطان الاكبر ويتحدون الأميركيين اليوم في البر كما في الجو كما في البحر
خدا حافظ، أميركا...!