الامبراطورية الأميركية: أفول مع الوقت أم سقوط مدوٍّ؟
إيهاب شوقي
وسط سيل من التوقعات بتحولات عالمية كبرى بعد ما أحدثته تداعيات انتشار فيروس كورونا من هزات كبرى ألقت بظلال قاتمة على مستقبل التكتلات والتوازنات الدولية التي تشكل النظام العالمي الحالي، برزت مؤخرًا تحليلات اكتسبت صفة "التعجل والمبالغة" تفضي الى الحسم بانهيار وشيك للنظام الرأسمالي وبالتالي انهيار امبراطورية الولايات المتحدة وتحول مركز القيادة العالمي نحو الشرق، وهو ما يتطلب وقفة لخطورة انتشار هذا التعجل.
وهذه الوقفة مطلوبة لأن التفاؤل المفرط بانهيار القطب الغربي الذي تقوده أميركا، يمكن أن يحدث احباطًا لدى جماهير المقاومة والمناهضين للرأسمالية العالمية والهيمنة الأميركية، اذا ما لملمت أميركا أوراقها وخرجت متعافية أو على الأقل محافظة على وضعها الدولي.
كما أن الركون الى افتراض السقوط الوشيك تلقائيًا بفعل كارثة كبرى مثل كورونا، يمكن أن يؤدي الى التراخي والعدول عن ابتكار حلول حتمية للخروج من منظومة التبعية المفروضة على المنطقة، والتي يجب أن يتم التخطيط لها وفقًا لوضع راهن وليس وفق وضع محتمل.
وهذه الوقفة تتطلب بعض الموضوعية، حيث يجب ان ترصد جوانب القوة الأميركية واحتمالات تدارك الازمة، كما يجب أن تتضمن جوانب الضعف التي كشفتها الازمة.
أولًا - جوانب القوة التي تعتمد عليها أميركا في تدارك الأزمة:
تعتمد أميركا في هيمنتها على الدولار، والذي لا يزال أضخم عملة نقدية احتياطية أجنبية على مستوى العالم، منذ أن باتت جميع الدول مرغمة على التعامل به بالإضافة إلى كونه العملة الرئيسية التي يتم تحديد باقي العملات بناءً عليها.
والدولار هو ما جعل ستيفن م. والت، أستاذ العلاقات الدولية، يتراجع عن تحليله المتشائم بزوال الهيمنة الأميركية، ليكتب مقالًا جديدًا في فورين بوليسي يصوّب فيه تحليله، ويتحدث عن دور الدولار، حيث يقول انه لا يزال يشكل أصولًا آمنة نسبيًا في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، وان الطلب الأجنبي على الدولار سيجعل من السهل على الولايات المتحدة الاقتراض. واستشهد بمقولة لبول بوست من جامعة شيكاغو وهي: "الاضطراب الاقتصادي الناتج عن COVID19 يعزز ببساطة هيمنة الدولار".
2- بدا أن كل الدول تأثرت بتداعيات الوباء وأن دولاً كبرى باتت تدفع ثمن انقيادها للرأسمالية المتوحشة وللهيمنة الأميركية، وبالتالي فهي متراوحة بين الانتفاض على أميركا وبين الاستغاثة بها، ويبدو أن كثيرًا من حكومات هذه الدول لا يملك بعد رفاهية الانتفاض وان الكرة في الملعب الأميركي، حيث يمكن لأميركا عبر بعض المساعدات والتنازلات عن النهج الاستكباري المتعالي مؤخرا، ان تعيد احتواء هذه الدول ولا سيما دول اوروبا.
وبالعودة لمقال ستيفن والت الذي تدارك به تحليله السابق، فإنه يقول نصا:
"سيعتمد مدى الضرر طويل المدى على موقع أميركا العالمي على عاملين رئيسيين. أولاً، هل تستطيع الولايات المتحدة السيطرة على الوباء في الداخل؟ ثانيًا، هل تحتفظ الولايات المتحدة بنهج "أميركا أولاً" تجاه هذه المشكلة العالمية، أم أنها تبدأ في إظهار نوع من القيادة العالمية التي أظهرتها بعد الحرب العالمية الثانية، أو هجمات 11 سبتمبر ، أو الأزمة المالية لعام 2008؟
3- سقوط الامبراطوريات يكون تدريجيا ويبدأ بالتراجع ثم الأفول، وقد يأخذ الأمر عقودا بل قرونا، وقد جمع البروفيسور الألماني ألكسندر ديماندت (Alexander Demandt) حوالي 210 نظرية مختلفة حول سبب سقوط روما، ويجمع المؤرخون أن هذا الانهيار كان على مدار أربعة قرون وبلغ ذروته في التدهور النهائي للإمبراطورية الرومانية الغربية في 4 سبتمبر 476.
ثانيا: جوانب الضعف
عند العودة لانهيار الامبراطورية الرومانية كمثال لامبراطورية من أعظم امبراطوريات التاريخ، فقد أشار المؤرخون إلى العوامل التي أدت إلى الانهيار، والتي تشمل ضعف كفاءة وعدد الجيش، انخفاض صحة وأعداد السكان الرومان، انهيار قوة الاقتصاد، تنافس الأباطرة، الصراعات الداخلية على السلطة، التغيرات الدينية في تلك الفترة، وضعف كفاءة الإدارة المدنية، الضغط المتزايد من البرابرة خارج الثقافة الرومانية.
وهذه العوامل متوفرة بشكل لافت في أميركا، وتنذر بأنها في طريقها للسقوط الحتمي، بل إن أميركا وسط هذه الأزمة كشفت أن جوانب الضعف هذه وصلت الى أقصاها، حيث دارت معارك على هامش أزمة كورونا عكست فيها أميركا صبيانية وضعفا، نرصد منها ما يلي:
1- المعركة مع الصين حول تقنية الجيل الخامس، حيث تمّثل تقنية الاتصال بالجيل الخامس 5 G إحدى أهم بؤر الصراع بين الصين وأميركا، ومن المرتقب أن تكون تلك التقنية بمثابة العمود الفقري للعديد من الصناعات التي أعلنت بكين أنها ستقوم بتطويرها ضمن صنع في الصين 2025، ويعمل الصقور الأميركيون على فرض حظر على شركات الاتصالات الأميركية من استخدام أي معدات 5G مصنوعة في الصين، ومنع دخول الشركات التي تقود تطوير تقنيات الجيل الخامس في الصين وهي "زي تي إي" و"هواوي"، إلى أسواق عالمية حليفة للولايات المتحدة، وخاصة بريطانيا.
ومؤخرا انتشرت فيديوهات تربط فيروس كورونا بظهور الـ5 G في المنطقة التي خرج منها المرض في الصين وانتشرت فيديوهات أخرى على يوتيوب تتضمن طرحاً بأن باخرة داياموند برنسيس التي وضعت ركابها رهن الحجر الصحي، كانت عرضةً للفيروس لأنها تستخدم تكنولوجيا الـ5 G في اتصالاتها.
وفي تقرير "بي بي سي" يقول روري كيلان جونز مراسل شؤون التكنولوجيا "ولكن في حين يمنع يوتيوب من الترويج لطرق غير مثبتة طبياً للوقاية من الفيروس، يبدو أنه لا يزيل المواد التي تروّج لنظريات المؤامرة حوله ولا حتى يقوم بالتحذير منها".
ومؤخرا أحرقت أبراجُ اتصال خاصة بالجيل الخامس من شبكات المحمول "G5"، وتعرض مهندسوها لاعتداءات في مناطق متفرقة من بريطانيا، بسبب فرضيات، لا أساس لها، ربطت بينها وبين تفشي فيروس كورونا في العالم.
2- معركة النفط الروسية - السعودية والتي أفلست قطاع النفط الصخري الأميركي وخروج ترامب بتصريحات متضاربة اقرب للاستجداء منها للتهديد وهو ما يشي بضعف كبير لأميركا.
3- استعراض القوة الوهمي لأميركا حول نشر بطاريات الصواريخ والحديث عن التطوير النووي وسط فضيحة اقتناص الكمامات ونقص المستلزمات الطبية!
باختصار نحن أمام أفول حقيقي وبوادر سقوط للامبراطورية الأميركية، ولكن هناك هامش للوقت قد يطول لعقود وقد يقصر، ولا ينبغي التعويل على وباء كي ينقذ العالم من الهيمنة، وانما المقاومة هي التي ستسقط أميركا وكل الطغاة، والدليل هنا واضح، حيث ان الافول والتراجع كان بسبب المقاومة ورفض الانصياع للهيمنة، وهو ما كشف بواطن الخلل، تماما كما فعل فيروس كورونا.