اولويات السياسة الاقتصادية من وجهة نظر السيد حسن نصر الله
الدكتور علي زعيتر
المتتبع لتاريخ لبنان وخاصة ما بعد الطائف يجد أن المنظومة الاقتصادية - السياسية - الأمنية التي حكمت، عمّقت نموذج ميشال شيحا غير العادل وبطريقة مشوهة وأكثر فسادا. وتمثل ذلك، بآليات العمل لانجاز مشاريع البنية التحتية والسيطرة على مفاصل الدولة والادارة الاقتصادية والتشريعية التي تقوم على التراضي. وأصبح زعماء الاحزاب - الطوائف هم البديل عن زعماء الطوائف ورجالات الاستقلال الذين ورثوا حقبة الفرنسي والتركي بكل تخلفها وأصبحوا هم أنفسهم أصحاب المصالح الاقتصادية، وانعكس ذلك في زيادة معدلات تراكم الدين العام بشكل حاد جدًا بسبب فسادهم وقيام اقتصاد ريعي قضى على ما تبقى من الاقتصاد الحقيقي. خلاصة القول إن نتيجة الثلاثين سنة من تجربة ما بعد الطائف هي استحكام الفساد المقونن والمشرع.
قلة من القادة اللبنانيين الذين طرحوا افكارا اقتصادية متكاملة تصلح لأن تكون استراتيجيات وبرامج تنموية تنهض بهذا البلد. عندما قرر حزب الله الدخول بشكل تفصيلي في معترك الحياة الاقتصادية اللبنانية، قدم أمينه العام السيد حسن نصر الله رؤية الحزب الاقتصادية، وهي عبارة عن مجموعة استراتيجيات اقتصادية كشرط أساسي للنهوض والتنمية. بالطبع لا يطرح السيد نصرالله نفسه عالما بالاقتصاد أو منظّرا له، ولكن من باب كونه قائدا سياسيا بامتياز استطاع بحق تشخيص اولويات السياسات الاقتصادية كمقدمة للنهوض والتنمية الاقتصادية في لبنان حيث يتبين من خلال دراسة تفصيلية لمضمون خطاباته المرتطبة بالوضع الاقتصادي أنه يقدم ثلاثة أركان للسياسة الاقتصادية المقترحة، هي على النحو التالي:
اولا - محاربة الفساد عامة وفي الدولة خاصة كمقدمة لازمة للحوكمة الرشيدة وتحقيق العدالة الاقتصادية بين الاغنياء والفقراء وبالتالي تحقيق التنمية والنمو المطلوبين:
يشير الاقتصادي الأميركي دوغلاس نورث الى أن التغيير والتحول الاقتصادي تابع الى ثلاثة عوامل بنيوية غير اقتصادية عبارة عن:
1- التغيير الكمي والنوعي في السكان.
2- التغيير في نوعية المخزون العلمي والمعرفي المرتبط بالتحكم بالظواهر الطبيعية.
3- التغيير في "السياقات المؤسساتية" التي تحدد بنية أي تغير والدوافع الاجتماعية له وهذه الاخيرة ترتبط بالحوكمة الرشيدة.
يشير "مؤشر الحاكمية المركب"( التعبير والمساءلة - الاستقرار السياسي - كفاءة الحكومة - نوعية التدخل الحكومي - حكم القانون والتحكم بالفساد) الذي طور من قبل باحثين كمؤشر للبنك الدولي، الى أن رتبة لبنان هي سالبة وفي تراجع وأقل من المتوسط العام العالمي في مجال التحكم في الفساد. كما يشير الرسم البياني (1) الى تطور مستوى الفساد في لبنان بناء لـ"مؤشر مدركات الفساد " (من أصل 180دولة) حيث تعرف منظمة الشفافية العالمية الفساد في القطاع العام على أنه "سوء استغلال الوظيفة العامة لاجل المصالح الخاصة":
يظهر الرسم البياني (1) المسار العام للفساد ومدى عمقه في الاقتصاد اللبناني وتقلباته خلال الأعوام الماضية. ففي العام 2015م انخفضت رتبة الفساد من 137 الى 123 لتعود بعدها للارتفاع وتصل في العام 2017م الى 143 وهي فترة ما قبل الانتخابات النيابية في العام 2018م (التحسن لا يعني بالضرورة السيطرة على الفساد وإنما قد يعني تدني مرتبة دول اخرى) وعليه فالمسار العام هو مسار تصاعدي.
اذا قارنا الرسم البياني الاول والثاني نجد تناسبًا في معدلات النمو الاقتصادي ورتبة الفساد بشكل عكسي بحيث كلما زاد الفساد أدى ذلك الى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
ثانيا- تغيير نمط الاستهلاك والانتاج - سياسة الاحلال محل الواردات من السلع الوسيطة والاستهلاكية النهائية بالحد الممكن :
يشير تشنري – سركوين الى أولوية التغيير الهيكلي والتصنيع كشرط اولي لازم للتنمية والنهوض الاقتصادي، والتصنيع هنا ليس الصناعة بالمعنى الخاص بل هو ايجاد تحول بنيوي بالتركيبة التشابكية بين القطاعات والانشطة الاقتصادية المختلفة، ولتوضيح ذلك يمكن الاستعانة باحدى جداول المنتج- المستخدم للاقتصاد اللبناني:
يوضح الجدول(1) تغييرات اجمالي الناتج المحلي بحسب الاستهلاك الكلي حيث يظهر لنا تطور االاستهلاك العائلي وايضا صافي الصادرات:
يقدر العجز في الميزان التجاري للعام 2018م بـ 38% من اجمالي الناتج المحلي حيث يذهب 30% من العجز ( 8 مليارات دولار) للمواد الضرورية غير الصناعية اي سلع استهلاكية نهائية، ويبين الجدول(1) ان الواردات في العام 2010 بلغت أربعة أضعاف الصادرات. تبين الارقام المرتبطة بنسبة المواد الغذائية والسلع الوسيطة المستوردة من الخارج والمستخدمة في القطاع الصناعي (الصناعات الغذائية..)، فعلى سبيل المثال يشير الجدول(2) الى كيفية توزيع الواردات على نوع السلعة والخدمة حيث نجد ان 30 بالمئة من الواردات هي واردات يمكن ايجاد بديل لها في لبنان اذا تم تغيير انماط الاستهلاك والانتاج اي من خلال اتباع سياسة التصنيع اي اعادة هيكلة الاقتصاد ( تغيير تركيبة المعاملات الفنية في الاقتصاد) بما يؤدي الى ارتباط الانشطة الاقتصادية ببعضها البعض.
بالعودة الى التغيير الهيكلي المطلوب، يشير تحليل جداول المنتج- المستخدم للاقتصاد اللبناني ( المتوافرة على موقع وزارة الاقتصاد) الى أن 45% من الاستهلاك الوسيط للقطاع الصناعي يأتي من القطاع الزراعي، وان 55% من هذا الاسهلاك الوسيط يتم استيراده، يعني ان 22.5% من المواد الاولية للقطاع الصناعي يتم استيرادها وهي متعلقة بمنتجات القطاع الزراعي، يعني اذا اتخذت الدولة قرارا تدريجيا وعبر الزمن ان تخفض من الاستيراد لصالح زيادة التكامل بين القطاع الزراعي والصناعي يمكن لها ان توفر ما مقداره مليار دولار سنويا. وهذا ينطبق على نفس القطاع الزراعي حيث يعتمد بنسبة 80 % سواء كاستهلاك وسيط او مخرجات القطاع، فاذا اعتمدنا التكامل السابق سوف يذهب الوفر الحاصل من تخفيض الاستيراد الى تنمية القطاع الزراعي وبالتالي تنمية المناطق الزراعية وتأمين السلع الغذائية الضرورية وغير ذلك من الابعاد التنموية.
قدم هيرشمن اسلوبا عمليا لتشخيص القطاعات المحورية التي تعطي اكبر قيمة مضافة اذا استثمرنا فيها وذلك من خلال ما يعرف بمعامل الترابط الفني الخلفي والامامي لتشابك القطاعات الاقتصادية، حيث يدل المعامل الفني على ان اكبر نسبة تشابك ممكن ان تكون بين قطاع الزراعة وقطاع الصناعة( 0.5 و 0.7 على التوالي)، وبالتالي فإن الاستثمار في هذا من القطاعات يعطي اكبر قيمة مضافة في الاقتصاد، وهذا ما تؤكده ارقام الاستهلاك الوسيط في مختلف الانشطة الاقتصادية في لبنان.
يمكن لنا من خلال تحليل نسب القيم المضافة لكل قطاع نسبة الى ناتج القطاع نفسه والتي وردت في دراسة "الحسابات القومية 2010م"، نموذجا، الوصول الى النتائج التالية:
اولويات السياسة الاقتصادية من وجهة نظر السيد حسن نصر الله
هكذا نجد ان القطاع الصناعي يستخدم مانسبته 55% كاستهلاك وسيط، وبالعودة الى ميزان التجاري وقطاع الصادرات والواردات نجد ان 80% من" الاستهلاك الوسيط" هذا يتم استيراده من الخارج ،( مايقرب من 40%). على صعيد القطاع الزراعي نجد اعتماد الناتج الكلي الزراعي على ما ينتجه بشكل كبير (80%)، وهذا يدل على مدى تخلف القطاع الزراعي وعدم وجود تكامل مع القطاعات الاخرى مما يثبت نظرية الخلل "البنيوي" في "هيكل الانتاج الكلي".
ان 55%من الناتج الكلي الصناعي هي استهلاك وسيط مرتبط بالقطاع الزراعي، وحيث يتم تأمين اكثر من 80% من هذا الاستهلاك عن طريق الواردات يحتم ان تكون هناك اسراتيجية "التغيير الهيكلي" تسد هذا العجز والتسرب النقدي وهذه الاستراتيجية هي "استراتيجية التصنيع الزراعي".
ثالثا- تشجيع التعاون والتكامل مع الدول التي يحقق فيها لبنان أعلى مستوى ممكن من الرفاهية الاجتماعية( الدول العربية نموذجا):
يتطلب استدامة أي تعاون اقتصادي أن يقوم على مبدأ توزيع المنافع بطريقة عادلة ووفق منطق "أمثلية باريتو"، ففي تقرير للاسكوا (2017) حول" تقييم التكامل الاقتصادي العربي : التجارة في الخدمات كمحرك للنمو والتنمية" يشير الى اهمية زيادة الاعتمادية بين الدول العربية وخاصة في مجال الخدمات ( النقل- المالية- الاتصالات) التي يعتبر ان لها قيمة مضافة كبيرة لما تمثله من نسبة في سلاسل القيمة العربية. ويرى التقرير ان " سلاسل القيمة العالمية اصبحت حاسمة الاهمية للتنمية الاقتصادية وانه ينبغي على البلدان العربية ان تحاول تعزيز منطقة التجارة العربية الحرة واتفاقات التجارة الحرة العميقة والشاملة استجابة لهذا الواقع الجديد ". يشير التقرير (بناء على "مؤشر الاعتمادية" الى انخفاض مستوى التكامل والتعاون بين لبنان ومجمل العالم العربي من 7 بالمئة الى 1.7 بالمئة بين العامين 2014-2015 م متأثرا بالازمة السورية:
اولويات السياسة الاقتصادية من وجهة نظر السيد حسن نصر الله
لا توجد بيانات دقيقة حول مدى مساهمة الصادرات اللبنانية في سلسلة القيمة العربية والعالمية، غير أن تميز لبنان من الناحية المناخية- الجغرافية ورأس المال البشري يجعل له ميزة تنافسية في تشكيل القيمة وخاصة في مجال الصادرات الزراعية والصناعات التحويلية، وعموم قطاع الخدمات، حيث يمكن لقطاع الخدمات ان يلعب دورا مهما في زيادة الانتاجية والقدرة التنافسية وتحسين الابتكار والدخول في عالم الاقتصاد الرقمي، من أهم معوقات ذلك التعاون هي القيود التشريعية والتنظيمية لمشاركة لبنان في تكوين سلسلة القيمة العربية (ESCWA2018). وهذا الامر لا ينطبق فقط على الدول العربية بل يمتد ليشمل بقية الدول الاسلامية والشرق أوسطية.
خلاصة: ان الشفافية والحوكمة الرشيدة والرؤية الاقتصادية الواضحة المبنية على المزايا النسبية التي يتمتع بها الاقتصاد اللبناني هي الشرط اللازم للنهوض الاقتصادي من وجهة نظر السيد نصر الله وبالتالي لا يمكن للاقتصاد اللبناني أن ينهض الا اذا عالجنا أسباب التدهور والتخلف بالاتفاق على رؤية علمية واحدة ومن ثم على استراتيجية محددة وبالتالي يصبح اصلاح القطاع المالي والمصرفي جزءا ومن ضمن تلك الاستراتيجيات لان اصل وسبب الانهيار هو في تركيب السلطة السياسية ورؤيتها وادارتها للاقتصاد.
أستاذ الاقتصاد والتنمية في الجامعة اللبنانية.